الَّذِينَ ظَلَمُوا) بالعفو عنهم ، انطلاقا من طهارة مشاعرك وطيبة قلبك ، فقد صدر الحكم عليهم من الله ، وانتهي أمرهم بذلك ، لأنهم لا يستحقون الرحمة من الله بعد أن رفضوا رحمته في رسالته وفي شريعته ، فحق عليهم العذاب ، (إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ) بطريقة عجيبة معجزة لا يتصورها أحد منهم ، ولا تخطر لهم على بال.
* * *
إن تسخروا منا فإننا نسخر منكم
(وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ) ويستمر في صناعته بجدّ واجتهاد في الليل والنهار ، ولكن عمله ذاك كان محلّ استغراب ، لأن المنطقة التي يعيش فيها كانت فلاة لا وجود للماء فيها ، أو في المواقع القريبة منها ، بما يوحي أن عمله ذاك كان حالة من العبث ، أو مظهرا لغياب العقل ، لذا كان موضع سخرية قومه : (وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ) بما يحملونه من عقد خبيثة ضدّه ، تجعلهم يعملون على تدمير شخصيته ، وعلى إذلاله ، وبما يحمله حكمهم على الأشياء من سطحية وتسرع لا ينفذ إلى أعماق الأمور ، فلو فكروا بطريقة موضوعيّة ، لنظروا إلى تاريخ حياته الذي يكشف لهم عن قوّة فكره ، وسلامة نظره ، ولسألوه عن سرّ عمله الغامض في الظاهر ، باعتباره صادرا عن شخص يملك العقل الكامل ، والذهنية المتوازنة ليتمكنوا بعد استجماع كل عناصر الموضوع الحكم ، ولكنهم ينطلقون من موقع الرغبة في تحطيمه ، لا من موقع الرغبة في الفهم الصحيح للأمور.
ولكن الله أراد لنوح أن يردّ الأسلوب بمثله ، لأن الفكر إنما يكون لمن يحترمون الفكر ، والحوار ينشأ مع من يريدون الحوار ، أما من يريدون التحطيم والتدمير ، عن قصد وتصميم شرّير فلا بد من مواجهتهم بأسلوبهم ، لأن ذلك ما تقتضيه الحكمة في مواجهة الموقف بما يتطابق مع مقتضى الحال ، وهكذا أراد الله له أن يقول ، في ما ألهمه من وحي الحكمة : (قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ