التقى وفي أجواء الإيمان ، حتى إذا أكمل نموه الجسدي والروحي ، وانفتح على الله بروحه ، وعلى الإيمان بفكره ، وعلى المسؤولية بكل وعيه ، جاءه النداء الخفي من الله ، أن ينزل إلى الساحة ، حيث يحتدم الصراع بين الآراء المتعددة والمذاهب المختلفة ، وحيث تتصادم الأهواء في النظر إلى القضايا والأشياء بعيدا عن الموازين الدقيقة لها ، ليأخذ دوره في مواجهة ذلك كله ، بكلام الله ، من موقع القوة المرتكزة على عمق الوعي وسعة الأفق ، وشمول النظرة ، وقوة الإرادة ، وصلابة الموقف.
(يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ) واحمل التوراة التي تشمل كل شيء في العقيدة والتشريع والمنهج ، لتؤكدها في حياة الناس ، بالدعوة والحركة والخط ، ولا تضعف أمام كل عوامل التحدي ، وعناصر الضعف ، بل تقدّم بكل قوة ، لأن الأقوياء هم الذين يملكون ساحة الفكر بقوة فكرهم ، وساحة السلطة بقوة شخصيتهم ، وثبات موقفهم. أما الضعفاء فيهزمهم الآخرون بأي أسلوب يضعف الروح ، ويزلزل الفكر ، ويهز الشعور ، فينسحبون عن مواقعهم بسهولة. هؤلاء المنهزمون الضعفاء لا يمثلون شيئا في حركة الصراع ، ومواجهة التحدي.
وليست هذه الدعوة خاصة بيحيى ، بل تشمل كل الذين يحملون رسالات الله من أنبياء أو مبلغين ، فإن على هؤلاء أن يحملوا رسالة الله بقوة وحسم بامتلاكهم العمق في المعرفة وصلابة الموقف ووضوح الهدف وصلابة الإرادة ، والهدف في مواجهة التحدي المضاد ، وامتلاك السلاح في مواقع الجهاد. وتلك هي مسئوليتهم التي يريد الله لهم أن يحملوها ، ليتوازن الواقع على خط الهدف ، وتندمج إرادة الإنسان في إرادة الله. وهذا ما أراده زكريا ، من خلال الولد الذي طلب إلى الله أن يهبه إياه ، ليرثه ويرث من آل يعقوب ، في حمل الرسالة ، وفي ما تركه آل يعقوب من كتاب وحكمة وقوة ، ليسيطروا على كل الذين يريدون الانحراف بالناس عن الخط المستقيم.
* * *