التوراة ... ومثل الحمار
وإذا كانت القضية في بعث الرسل هي أن يتعلم الناس الكتاب والحكمة ، ويطهروا أنفسهم ويزكّوها ، ليحصلوا على الطاقة الروحية التي تمنحهم امتدادا في جانب العمل ، فقد جاءت هذه الآية لتثير أمام المسلمين مسألة اليهود الذين أرسل الله إليهم التوراة التي بلّغهم إيّاها موسى وعلمهم مضامينها ومفاهيمها ، ولكنهم وضعوها في حياتهم كواجهة قومية في ما أرادوا أن يتحركوا فيه من ذهنية عنصرية لا ترتبط بالجانب الفكري والروحي للتوراة في مضمونها العملي ، بل ترتبط بها من الجانب التاريخي الذي يقدمها كتراث قومي لا مكان للإنسانية الأخرى فيه.
وهكذا أطلق الله هذا المثل ليقدمه للمسلمين الذين قد يتحولون إلى ما يشبه الوضع اليهودي في الأخذ بالقرآن شكلا لا مضمونا ، كما قد يأخذون به في صفته القومية باعتبار أنه جاء باللسان العربي على يد رسول عربي ليقول لهم إن مثلهم سيكون كمثل اليهود ، لأن العمق في القضيتين واحد ، هذا من جهة.
ومن جهة أخرى ، فإن الآية قد تلاحظ كمقدمة للخطاب التالي لليهود ، في ما يدعونه لأنفسهم من ميزة التفوق على بقية الناس في قربهم من الله ، (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ) وتعلموها وفهموا مضامينها ، (ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها) فلم يحولوها إلى مشروع عملي للتغيير الداخلي ، وخطة متحركة لتحويل الواقع من واقع خاضع للفساد والانحراف إلى واقع منطلق مع الصلاح والاستقامة ، ليكونوا قريبين إلى الله من خلال العمل بأوامره ونواهيه ، في ما تأمرهم به التوراة أو تنهاهم عنه.
وهكذا كان مثلهم في عدم الانتفاع بها (كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً)