وقد ورد عن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم : «اجعلوها في سجودكم» (١) ، ولعله بلحاظ أن السجود يمثل أقصى درجات الانحطاط في مواقع الخضوع ، فأريد لهذا الجو الخاضع الذي يعيشه الساجد ، أن يرتبط في وعيه بمواقع السموّ العليا التي يستوحي منها الشعور العبادي بانسحاق الأسفل أمام الأعلى ، وذوبانه فيه ، مما يجعله في أفضل درجات العبودية في إحساسه العميق بمقام ربه وموقعه منه.
ولعل التأكيد على التسبيح ، ينطلق من الأسلوب القرآنيّ التربويّ الذي يراد له أن يربّي الإنسان المؤمن على الاستحضار الدائم لعظمة الله في نفسه ، وتنزيهه عما لا يليق به ، لتبقى العقيدة في صفائها ونقائها مشرقة في ذاته ، وليبقى للإنسان الحد الفاصل بين ما هو الإنسان في كل مواقعه المحدودة ، وبين ما هو الرب في آفاق العظمة المطلقة التي لا حدود لها ، حتى لا يتأنسن الإله في شعوره ، ولا يتألّه الإنسان في وعيه الفكري وحركته العملية ، عند ما يظل الذهن مشدودا إلى الله في الآفاق التي لا يشاركه فيها أحد.
(الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى) فجعل كل مخلوق متناسبا في أجزائه وأجهزته ، كاملا في عناصر وجوده ، جاهزا لتحقيق غايته ، ميسّرا لحركته الوجودية نحو ما خلق لها ، سواء في وجوده الذاتي في حياته الفردية ، أو في وجوده الاجتماعي في حياته الاجتماعية. وهذا ما يلمحه المتأمّل في دراسة كل المخلوقات الجامدة والحية ، الصغيرة والكبيرة ، من أصغر ذرّة إلى أضخم المجموعات الكونية الهائلة.
* * *
(الَّذِي قَدَّرَ فَهَدى)
(وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى) فجعل للكون نظاما يتحرّك نحو غايته بكل دقة
__________________
(١) البحار ، م : ١٨ ، ج : ٥٥ ، ص : ٢٤٧ ، باب : ٥ ، رواية : ٥٤.