عن أعلى عليين إلى أسفل السافلين ، ولذلك قال : (وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) ، وقال : (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) ، وهؤلاء هم المنافقون الذين هم أسوأ حالا من الكفار المحضة ، لأنهم المحجوبون أزلا وأبدا.
واعلم أن التحقيق يقتضي أن قوله : (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ) مختص ببعض أفراد الناس كما ستعلم ، وبالجملة ظهر أن المقصود الأصلي من إيجاد الكائنات هو الإنسان الكامل الذي هو خليفة الله ، قوله تعالى : (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) ، وقوله : (إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ) ، وقوله : (ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) ، وقوله ، (يَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ) ، وقوله : (وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ) ، وقوله : (وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها) ، كل ذلك إشارة إلى أنه لا يستصلح لخلافة الله وعمارة الدارين إلا الإنسان الكامل ، وهو الإنسان الحقيقي مظهر اسم الله الأعظم كما نبه بقوله : (إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ).
قاعدة
في ذكر العناصر التي منها تكون الإنسان
واعلم أنه ذكر الله تعالى في غير موضع من القرآن العناصر التي منها أوجد الإنسان ونبه على أنه جعله إنسانا في سبع درجات ، وأشار إلى ذلك في عدة مواضع مختلفة حسب ما اقتضت الحكمة ، فقال في موضع (خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ) إشارة إلى المبدإ الأول ، وفي آخر (مِنْ طِينٍ) إشارة إلى الجمع بين التراب والماء ، وفي آخر من (حَمَإٍ مَسْنُونٍ) إشارة إلى الطين المتغير بالهواء أدنى تغير ، وفي آخر (مِنْ طِينٍ لازِبٍ) إشارة إلى الطين المستقر على حالة من الاعتدال يصلح لقبول الصورة ، وفي آخر (مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) إشارة إلى يبسه وسماع صلصلة منه ، وفي آخر (مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ) وهو الذي قد أصلح بأثر من النار فصار كالخزف ، وبهذه القوة