وقوله تعالى : (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ) ، تنبيه على أنهم لو عرفوا أنفسهم لعرفوا الله ، فلما جهلوا دل جهلهم إياه على جهلهم أنفسهم.
قاعدة
في الإشارة إلى قوى الأشياء التي جمعت في الإنسان
قد جمع الله فيه قوى العالم ، وأوجده بعد وجود الأشياء التي جمعت فيه ، قال تعالى تنبيها على ذلك ، (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ) ، فإنه تعالى أوجد فيه بسائط العالم ومركباته وروحانياته وجسمانياته ومبدعاته ومكوناته ، فالإنسان من حيث إنه جمع فيه جميع ما وجد في العالم من أقسام الجواهر والأعراض والبسائط والمركبات والأرواح والأجسام هو العالم ومن حيث إنه صغر شكله وجمع فيه قوى العالم ، فهو كالمختصر من الكتاب والنسخة الموجزة المنتخبة منه ، لأن المختصر الموجز من الكتاب هو الذي قلل لفظه واستوفى معناه ، والإنسان هو هكذا إذا قابلناه مع العالم ، ومن حيث إنه صفوة العالم ولبابه وخلاصته وثمرته فهو كالزبد من المخيض والدهن من السمسم والزيت من الزيتونة ، ومعرفة الله فيه إذا حصلت فكنور المصباح إذا اشتعل الزيت ، قال تعالى : (مَثَلُ نُورِهِ) ، أي في قلب المؤمن كما في قراءة ابن مسعود (كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ) الآية ، فالمشكاة البدن ، والزجاجة الروح الحيواني التي هي بمنزلة المرآة لصفائها وقبولها لصور المحسوسات ، التي هي عكوس الصور الحقيقية وأشباحها المثالية ، والزيت القوة القدسية التي هي أفضل ضروب العقل الهيولاني ، وهو أول درجة النفس الناطقة وآخر درجة النفس الحساسة ، وهو بعينه القوة الخيالية عندنا ، لأنها أيضا مجرد عن البدن موجودة لا في عالم الطبيعة ، بل فيما فوق هذا العالم ، والشجرة المباركة هي القوة الفكرية التي هي أفضل ضرب من القوة الخيالية ، لأنها إذا قويت تصير متفكرة.