فإذن نقول في بيان أن الإنسان مطابق للعالم : إن فيه أشياء هي أمثال ما في العالم الكبير ، ففيه أشياء كالعناصر من حيث ما فيه من الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة ، أو من حيث ما فيه الدم والبلغم والصفراء والسوداء ، وإليه الإشارة بقوله تعالى : (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ) ، أي مختلطة من قوى أمور مختلفة ، وفيه أشياء كالمعادن والجبال من حيث ما فيه من العظام والأعضاء ، وشيء كالنبات من حيث ما يتغذى وينمو ويولد ، وشيء كالبهيمة من حيث ما يحس ويتخيل ويلتذ ويتألم ويشتهي ويغضب ، وشيء كالسباع من حيث ما يحارب ويصول ، وكالشيطان من حيث ما يغوي ويضل ، وكالملائكة من حيث ما يعرف الله ويعبده ويهلله ويحمده ويسبحه ويقدسه ، وكاللوح المحفوظ لقوة حفظه لمدركات الأشياء أو من حيث ما جعله مجمع الحكم التي كتبها فيه على سبيل الاختصار.
وقد ذكر بعض الحكماء أن في بدن الإنسان أربعة آلاف حكمة وفي نفسه قريبا من ذلك ، وكالقلم من حيث ما يستحضر ويستثبت صور المعقولات في نفسه على وجه التفصيل بقوة عقله البسيط الذي كمن فيه الكل على وجه الإجمال ، أو من حيث ما يثبت بكلامه صور الأشياء في قلوب الناس ، كما أن القلم يثبت الحكم والعلوم في اللوح المحفوظ وقلوب الملائكة ، ولأجل صحة المطابقة بين الإنسان والعالم قال : (ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ).
قاعدة
في ذكر تكون الإنسان شيئا فشيئا حتى يصير إنسانا كاملا
الإنسان يتكون أولا من أمر عدمي ، وهي قوة هيولانية ، وإليه الإشارة (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً) ، ويتكون أيضا جمادا ميتا ، لقوله تعالى : (كُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ) ، وذلك حيث كان ترابا وطينا وصلصالا ونحوها ، ثم يصير نباتا ناميا لقوله تعالى : (وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً) ، وذلك حيث ما كان نطفة وعلقة ومضغة ، ثم يصير حيوانا