استعداد الجسدية وقوة الظلومية والجهولية ، فصارت الظلومية والجهولية في حق حامل الأمانة ومؤدي حقها مدحا ، وفي حق الخائنين فيها ذما.
تبصرة أخرى
اعلم أن لهذه الآية الكريمة تأويلا آخر غير ما مر يشعر بذم الإنسان ، كما أن الأول كان مشعرا بمدحه ، وهو أيضا يستدعي بيان تمهيد مقدمتين.
إحداهما أن كل ما عدا الإنسان من الأفلاك والعناصر والمركبات وغيرها فلها ضرب من الوصول والشهود له سبحانه والفناء عن ذواتها ، لانخراط وجود كل منها في وجود علته وفاعله ، فإن فاعل كل شيء هو بعينه غايتها وتمامها كما بين في موضعه ، فوجود كل معلول لمعة من وجود علته ، ووجود كل علة تمام لوجود معلولها ، وكذا الكلام في وجود علة العلة بالقياس إلى تلك العلة ، ومعلول المعلول بالقياس إلى ذلك المعلول ، فثبت أن جميع الممكنات المجعولة وجوداتها مضمحلة منطمسة في وجود القيوم تعالى ، وجميع أنوارها مستهلكة في سطوع النور الإلهي إلا أفراد الإنسان ، فإنهم بواسطة داعية سلطان الوهم واستيلائه عليهم وجهلهم بكيفية الصنع والإيجاد يزعمون أن لهم وجودا وأنانية وقدرة مستقلة.
وثانيهما أنه ما من موجود جسماني أو روحاني في هذا العالم إلا وله سلوك وجودي واستحالة ذاتية وحركة معنوية إلى جانب الحق صائرا إياه ، كما في قوله : (أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ) ، فوجود كل موجود إمكاني بمنزلة أمانة عارية يرد إلى صاحبها آخر الأمر ، وما سوى الإنسان لا يعوق له شيء عن سلوكه سبيل الحق وخروجه عن تحمل هذه الأمانة.
فعلى هذا نقول : المراد من الأمانة ، الوجود الفائض على كل موجود ، لأن وجودات الممكنات هي بمنزلة أشعة ولوامع لوجود الحق تعالى ، فهي ليست قائمة بالممكنات بل قائمة بذاته تعالى ، فلما وقع عرض الأمانة يعني بسط ضوء الوجود على هياكل أهل السماوات والأرض والجبال ، فأبوا أن يحملوها بزعمهم أن لهم وجودا مباينا لوجود الحق ، كالإنسان الغير