استقامت طريقته وصلحت سريرته ملكا مقربا ملتذا بلقاء الله تعالى وقربه ، وإن اعوجت سبيله وانسلخت فطرته فيصير مطرودا عن باب الله معذبا عذابا أليما ، ومعلوم أن في الاستحالات والانقلابات الطبيعية كان له ذهاب من طور أدنى إلى طور أعلى ، وكان كلما انخلع عنه صورة ناقصة تلبس بما هو أعلى منزلة وأجود من الأولى ، وكان له في كل موت حياة جديدة أشرف من الحياة السابقة ، فهكذا ينبغي أن يتحرى في مذهب نفسه في العلم والعمل ، فلا يروم أن يرقى إلى درجة من الكمال إلا ويخلع عن نفسه آراء وأخلاقا وعاداتا كانت مألوفة له معتادا بها أولا ، حتى يمكنه أن يفارق الصور البشرية كلها ويصعد إلى ملكوت السماء ويجازي هناك بأحسن الجزاء ، ويكون (مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً).
قاعدة
في الحشر
اعلم أن الزمان علة التعاقب والتسابق في الوجود ، والمكان علة التكثر والافتراق في الحضور ، فهما سببان لاختفاء الموجودات بعضها عن بعض ، فإذا ارتفعا في القيامة ارتفعت الحجب بين الخلائق فيجتمع الخلائق كلهم الأولون والآخرون ، (قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) ، فهو يوم الجمع (يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ) ، وبوجه آخر هو يوم الفصل ، لأن الدنيا دار الاشتباه والاختلاط ، متشابك فيها الحق مع الباطل ، ويتخالط فيها الوجود والعدم والخير والشر والخبيث والطيب ، وفي الآخرة يتفرق المتخالفات لقوله : (يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ) ، وفيها يتميز المتشابهون لقوله ، (لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) الآية ، وينفصل الخصمان لقوله ، (لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ) ، وقوله : (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ) ، ولا منافاة بين هذا الفصل وذلك الجمع ، بل هذا يوجب ذاك كما قال : (هذا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ) ، والحشر أيضا بمعنى الجمع قوله : (وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً).