المشهد الحادي عشر
في الإشارة إلى درجات الجنان ودركات النيران
قال بعض المحققين : الخلق اتصف أولا بالوجود ، ثم بالعلم ، ثم بالقدرة ، ثم بالإرادة ، ثم بالفعل ، وحيث يكون المعاد عودا إلى الفطرة الأصلية ورجوعا إلى البداية في النهاية ، فلا بد أن ينتفي منه هذه الصفات على التدريج والترتيب المعاكس للترتيب الأول الحدوثي ، فالسالك إلى الله تعالى بقدم الإيمان ونور العرفان لا بد ان ينتفي منه أولا الفعل ، وهو مرتبة التقوى والزهد في الدنيا ، ثم لا بد أن ينتفي منه الاختيار ، ولم يبق فيه إرادة واختيار ، بل يستهلك إرادته في إرادة الله ، (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ) ، لأن جميع الأشياء صادرة عنه تعالى على أبلغ وجه وأحكم نظام ، فإذا تقرر له هذا المقام واستقام فيه ، رضي بالقضاء وحصل له مقام الرضا واستراح له من كل هم وغم ، لأنه رأى الأشياء كلها في غاية الجودة والحسن والنظام والتمام ، ورأى رحمة الله (وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) بل رأى في كل شيء وجه الحق الباقي ، ورأى الحسن المطلق والجمال المطلق متجليا عليه وعلى كل شيء فيكون مبتهجا به ملتذا راضيا ، فإن من رأى صورة جملة العالم مكشوفة لديه ، حاضرة عنده حضورا علميا على أحسن ترتيب وخير نظام وأجود نسق وتمام ، من جهة العلم بأسبابه ومباديه الآخذة من عند الله ، وعند ذلك قد تبدلت عليه صور الأشياء عما كانت هي عليه عنده أولا ، فصارت الأرض غير الأرض والسماوات غير السماوات ، وهكذا كل شيء