ليست لأجل غرض جسماني بل لأجل مقصد علوي ونيل كمال قدسي يكون من شأنها الوصول إليه ولا يمكن إلا بالسعي والتوجه لنفوسها وأبدانها ، لما علمت أن فعل النفس وحركتها لا يكون إلا مع البدن ، فلا بد لأجرامها أن يتحرك ضربا من الحركة. وحركة الأجسام منحصرة في أن يكون في أربع مقولات ، إما في الأين أو في الكم أو في الكيف أو في الوضع ، لكن الفلك لا يمكن أن يكون له حركة إلا الوضعية فقط ، لأنه بالفعل في جميع ما يمكن له من المقدار والأين والكيف ، إلا الوضع بمعنى النسبة إلى الغير ، فيطلب وضعا كليا يستعد به لذلك الكمال وينضم إلى إدراكه الكلي إدراكات جزئية متقدمة بعضها ومتأخرة بعضها.
فينبعث من إرادتها الكلية إدراكات جزئية ، فيتبعها أشواق جزئية يوجب حركات جزئية ، يقع الوصول بها إلى مرادات جزئية ، نسبة الإرادة الكلية إلى الإرادة الجزئية كنسبة المراد الكلي إلى المراد الجزئي ، ولما علمت أن المراد الكلي للفلك التشبه بجوهر كامل عقلي ، بل الاتحاد والصيرورة إياه لا مجرد تحصيل معنى التشبه ، فإنه أمر ذهني لا وجود له في الخارج ، وما لا وجود له لا يكون مقصودا حقيقيا. فالمراد الكلي جوهر كامل عقلي ، والمراد الجزئي أحد جزئياته وهو جوهر نفساني جزئي ، فدائما يتجدد للنفس الفلكية أمثال ويتصل كل منها إلى العالم الأعلى ويتحد بالجوهر المفارق ويوجد بدله. ونحن قد بينا في سائر كتبنا أن طبيعة كل جسم التي هي مبدأ حركته وسكونه وسائر صفاته الذاتية وأفعاله الطبيعية ، أمر متجدد سيال دائما ، فكذلك طبيعة الفلك أمر متجدد سيال. وأيضا قد بينا أن الحيوانية في الفلك ينبعث في كل حين من عالم الطبيعة إلى عالم الملكوت العقلي ويحشر إلى الملإ الأعلى ويوجد بدلها نازلا إلى الفلك من ذلك العالم ، وهكذا يتوارد الأمثال النفسانية ويتجدد الأشكال والأوضاع والطبائع والمواد الجسمانية في هذا العالم في كل وقت ، وتنشأ الآخرة من الدنيا إلى أن يرث الله (الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها) والله (خَيْرُ ـ الْوارِثِينَ) ، والخلق غافلون عن ذلك ، لتشابه الأمثال ، كما قال الله تعالى : (أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ ، بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ) ومن هاهنا يعلم أن العالم حادث