رأوا أن نفوس الأفلاك منطبعة لا غير ، والمتأخرون منهم كأبي علي بن سينا ومن يحذو حذوه ، ذهبوا إلى أنها مجردة فقط. وبعض المتأخرين رأى أن الفلك ذا نفسين ، أحدهما ، منطبعة والأخرى مجردة.
والذي لاح لهذه الفقراء بنور الهداية الربانية ، أن لكل من الأفلاك هوية واحدة نفسانية جامعة لمرتبتي التجرد والتجسم ، فلها نشأتان : إحداهما ، عقلية باقية عند الله ، والأخرى ، نفسانية جزئية متجددة في كل وقت. فبالنظر إلى الجهة العقلية قالت الفلاسفة : إن العالم قديم ، وبالنظر إلى هويتها المتجددة قالت أصحاب الشرائع الحقة : إن العالم حادث. والقول الفصل هو الذي نطق به الكتاب الإلهي : (ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللهِ باقٍ) ولو اجتمعت فصحاء العالم كلهم على أن يأتوا بمثل هذا الكلام الفصيح المعرب عن هذا المعنى اللطيف والمطلب الشريف على هذا الوجه من الوجازة والبيان ، لما قدروا على ذلك (وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ).
تعليم تمثيلي
اعلم أن صورة العالم كصورة الإنسان ، فكما أن لأفعال الإنسان من لدن صدورها منه وبروزها من مكمن غيبها إلى مظاهر شهادتها أربع مقامات ومراتب ، لكونها أولا في مكمن روحه الذي هو غيب غيوبه في غاية الخفاء والبطون كأنه غير مشعور به ، ثم يتنزل الأمر منه إلى عين قلبه عند استحضارها وإخطارها بالبال كلية ، ثم يتنزل إلى مخزن خياله ولوح قدره مشخصة جزئية ، ثم يتحرك أعضاؤه عند إرادة إظهارها في الخارج فيظهر في مادة جسمانية ذات وضع شخصي ، وهذا آخر تنزلاتها. فكذلك لما يحدث في هذا العالم من الحوادث ، إذ المقام الأول بمثابة القضاء البسيط الإجمالي ، والثاني بمثابة صور اللوح المحفوظ ومعدنه العرش الأعظم ، والثالث بمثابة نقش القدر ومحله السماء الدنيا أعني السماوات السبع من حيث نفوسها الانطباعية الخيالية على ما نراه ، والرابع بمثابة الصور الحادثة في المواد الخارجية. ولا شك أن النزول الأول