(وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ) و (سَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) إلى غير ذلك من الآيات.
الخامس ، الصناعة وهي المهنة وهي التي استعبد الإنسان فيها واستخلفه ، وهي الأشياء التي يحتاج صنعة أكثرها إلى ستة أشياء. إلى عنصر يعمل منه ، وإلى مكان ، وإلى زمان ، وإلى حركة ، وإلى أعضاء ، وإلى آلة. وهذا الضرب خص الإنسان به ولم يستصلح لها الملائكة كما استصلح الملائكة لأمور لم يستصلح لها الناس ، وجعل لكل ملك مقاما معلوما (وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ) وكذا جعل لكل من أصناف الناس مقاما معلوما كما نبه بقوله : (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ) وقوله : (كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) وقوله صلىاللهعليهوآله : «كل ميسر لما خلق له» ولكن عامة الملائكة ، لا يعصون الله في ما أمرهم ، (وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) ، لبساطتهم وعدم تركبهم من أمشاج. والناس فيما أمروا وكلفوا بين مطيع وعاص ، فهم على القول المجمل ثلاثة أضرب : ضرب أخلوا بأمره وانسلخوا عما خلقوا لأجله واتبعوا خطوات الشيطان وعبدوا الطاغوت. وضرب وقفوا بغاية جهدهم حيثما وقفوا كالموصوف بقوله : (وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً). وضرب ترددوا بين الطريقين كما قال : (خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً) فمن رجح حسناته على سيئاته ، فهو موعود بالإحسان إليه. وعلى الأنواع الثلاثة دل بقوله : (وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً ، فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) وعلى هذا قسم في آخر السورة وقال : (فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ ، فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ ...).
وكثير من الناس يعصون الله ولا يأتمرون له ولكن يستعملهم الله تعالى بغير إرادة للسعي في تصرفه من حيث لا يشعرون ، كفرعون في أخذ موسى ابنا له وتربيته إياه ، وكجمعه السحرة في إيمانهم بالله وبموسى ، وكإخوة يوسف في فعلهم بيوسف ما أفضي به إلى ملك مصر وتمكنه مما مكن فيه ، ويكون مثلهم في ذلك كما قيل :
قصدت مساءتي فاجتلبت مسرتي |
|
وقد يحسن الناس من حيث لا يدري |
فيكون فعله محمودا وفاعله مذموما ، كما قيل : رب امرئ أتاك لا يحمد الفعال فيه ويحمد الأفعالا.