الأماكن ، والنزول فى غير أوطانها ؛ فإنك إن لم تتعاط قريض الشعر المنظوم ، ولم تتكلّف اختيار الكلام المنثور لم يعبك بذلك أحد ، وإن تكلّفته ولم تكن حاذقا مطبوعا ، ولا محكما لشأنك بصيرا عابك من أنت أقلّ عيبا منه ، وزرى عليك من هو دونك.
فإن ابتليت بتكلّف (١) القول ، وتعاطى الصناعة ، ولم تسمح لك الطبيعة فى أوّل وهلة ، وتعصّى عليك بعد إجالة الفكرة ، فلا تعجل ، ودعه سحابة يومك ولا تضجر ، وأمهلة سواد ليلتك ، وعاوده عند نشاطك ؛ فإنك لا تعدم الإجابة والمواتاة إن (٢) كانت هناك طبيعة وجريت من الصناعة على عرق ؛ وهى ـ المنزلة الثانية.
فإن تمنّع عليك بعد ذلك مع ترويح الخاطر ، وطول الإمهال ، فالمنزلة (٣) الثالثة أن تتحوّل عن هذه الصناعة إلى أشهى الصناعات إليك ، وأخفّها عليك ؛ فإنك لم تشتهها إلّا وبينكما نسب ، والشىء لا يحنّ إلا إلى ما شاكله ، وإن كانت المشاكلة قد تكون فى طبقات ؛ فإنّ النفوس لا تجود بمكنونها ، ولا تسمح بمخزونها مع الرهبة ، كما تجود مع الرّغبة والمحبّة.
وينبغى أن تعرف أقدار المعانى ، فتوازن بينها وبين أوزان المستمعين ، وبين أقدار الحالات ؛ فتجعل لكلّ طبقة كلاما ، ولكلّ حال مقاما ، حتى تقسم أقدار المعانى على أقدار المقامات ، وأقدار المستمعين على أقدار الحالات.
واعلم أنّ المنفعة مع موافقة الحال ، وما يجب لكلّ مقام من المقال ؛ فإن كنت متكلّما ، أو احتجت إلى عمل خطبة لبعض من تصلح له الخطب ، أو قصيدة لبعض ما يراد له القصيد ، فتخطّ ألفاظ المتكلمين ، مثل الجسم والعرض والكون والتأليف والجوهر ، فإنّ ذلك هجنة.
__________________
(١) فى ط ، ب : «بتكلفة» ، وما أثبتناه عن ا.
(٢) فى ط : وإن.
(٣) فى ط : والمنزلة.