كلّ نازل ، ورضا كلّ ساخط ، وخطبة من لدن مطلع الشّمس إلى أن تغرب ، آمر فيها بالتّواصل وأنهى عن التقاطع. فقيل لأبى يعقوب الخريمى : هلّا اكتفى بقوله : «آمر فيها بالتواصل» عن قوله : «وأنهى عن التقاطع»؟ فقال : أوما علمت أنّ الكناية والتعريض لا تعمل عمل الإطناب والتكشيف.
وقد رأينا الله تعالى إذا خاطب العرب والأعراب أخرج الكلام مخرج الإشارة والوحى ؛ وإذا خاطب بنى إسرائيل أو حكى عنهم جعل الكلام مبسوطا.
فمما خاطب به أهل مكّة قوله سبحانه : (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً ، وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ ، وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ، ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ). وقوله تعالى : (إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ). وقوله تعالى : (أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) ؛ فى أشباه لهذا كثيرة.
وقل ما تجد قصة لبنى إسرائيل فى القرآن إلا مطوّلة مشروحة ومكرّرة فى مواضع معادة ؛ لبعد فهمهم كان ، وتأخّر معرفتهم.
وكلام الفصحاء إنما هو شوب الإيجاز بالإطناب والفصيح العالى بما دون ذلك من القصد المتوسّط ؛ ليستدلّ بالقصد على العالى ، وليخرج السامع من شيء إلى شيء فيزداد نشاطه وتتوفّر رغبته ، فيصرفوه فى وجوه الكلام إيجازه وإطنابه ، حتى استعملوا التكرار ليتوكّد القول للسامع.
وقد جاء فى القرآن وفصيح الشعر منه شيء كثير ، فمن ذلك قوله تعالى : (كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ، ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ). وقوله تعالى : (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً). فيكون للتوكيد كما يقول القائل : ارم ارم ، واعجل اعجل.
وقد قال الشاعر :
كم نعمة كانت لكم |
|
كم كم وكم كانت وكم |
(١٣ ـ الصناعتين)