كلّ التهذيب ؛ ولا يفعل ذلك حتى يصادف حكيما ، وفيلسوفا عظيما ، ومن تعوّد حذف فضول الكلام ، وإسقاط مشتركات الألفاظ ؛ ونظر فى صناعة المنطق على جهة الصناعة والمبالغة فيها ، لا على جهة الاستطراف والتطرّف لها.
قال : واعلم أنّ حق المعنى أن يكون الاسم له طبقا (١) ، وتلك الحال له وفقا ، ولا يكون الاسم فاضلا ، ولا مقصّرا ، ولا مشتركا ، ولا مضمّنا ؛ ويكون تصفّحه لمصادر كلامه بقدر تصفّحه لموارده ؛ ويكون لفظه مونقا ، ومعناه نيّرا واضحا. ومدار الأمر على إفهام كلّ قوم بقدر طاقتهم ، والحمل عليهم على قدر منازلهم ؛ وأن تواتيه آلته ، وتتصرف معه أداته ، ويكون فى التهمة لنفسه معتدلا ، وفى حسن الظن بها مقتصدا ؛ فإنه إن تجاوز الحقّ فى مقدار حسن الظن أودعها تهاون الآمنين ، وإن تجاوز بها مقدار الحقّ فى التهمة ظلمها وأودعها ذلّ المظلومين. ولكلّ ذلك مقدار من الشغل ، ولكلّ شغل مقدار من الوهن ، ولكل وهن مقدار من الجهل.
فقوله (٢) : «أول البلاغة اجتماع آلة البلاغة» وأول آلات البلاغة جودة القريحة وطلاقة اللسان. وذلك من فعل الله تعالى ؛ لا يقدر العبد على اكتسابه لنفسه واجتلابه لها.
ومن الناس من إذا خلا بنفسه وأعمل فكره أتى بالبيان العجيب ، والكلام البديع المصيب ، واستخرج المعنى الرائق ، وجاء باللفظ الرائع. وإذا حاور أو ناظر قصّر وتأخّر. فحقّ هذا ألّا يتعرض لارتجال الخطب ، ولا يجارى أصحاب البدائة فى ميدان القريض ، ويكتفى بنتائج فكره.
والناس فى صناعة الكلام على طبقات : منهم من إذا حاور وناظر أبلغ وأجاد ، وإذا كتب وأملى أخلّ وتخلّف. ومنهم من إذا أملى برّز ، وإذا حاور أو كتب
__________________
(١) الطبق من كل شيء : ما ساواه.
(٢) أى قول حكيم الهند ص ١٩.