والحقيقة مانع الأوابد من الذهاب والإفلات ، والاستعارة أبلغ ؛ لأن القيد من أعلى مراتب المنع عن التصرف ، لأنك تشاهد ما فى القيد من المنع ، فلست تشك فيه. وكذلك قولهم : هذا ميزان القياس ؛ حقيقته تعديل القياس ، والاستعارة أبلغ ؛ لأن الميزان يصوّر لك التعديل حتى تعاينه ، وللعيان فضل على ما سواه. وكذلك : العروض ميزان الشعر ، حقيقته تقويمه.
ولا بدّ أيضا من معنى مشترك بين المستعار والمستعار منه ؛ والمعنى المشترك بين قيد الأوابد ومانع الأوابد هو الحبس وعدم الإفلات ، وبين ميزان القياس وتعديله حصول الاستقامة وارتفاع الحيف والميل إلى أحد الجانبين ؛ وهكذا جميع الاستعارات والمجازات.
ومن ذلك قوله تعالى : (وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً) حقيقته عمدنا ، وقدمنا أبلغ ؛ لأنه دلّ فيه على ما كان من إمهاله لهم ، حتى كأنه كان غائبا عنهم ، ثم قدم فاطلع منهم على غير ما ينبغى فجازاهم بحسبه ؛ والمعنى الجامع بينهما العدل فى شدة النكير ؛ لأن العمد إلى إبطال الفاسد عدل. وأما قوله : (هَباءً مَنْثُوراً) فحقيقته أبطلناه حتى لم يحصل منه شيء ، والاستعارة أبلغ ؛ لأنه إخراج ما لا يرى إلى ما يرى. والشاهد أيضا على أن الاستعارة أبلغ من الحقيقة أن قوله تعالى : (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ) حقيقته علا وطما ، والاستعارة أبلغ ؛ لأن فيها دلالة القهر ، وذلك أن الطغيان علوّ فيه غلبة وقهر. وكذلك قوله تعالى : (بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ) حقيقته شديدة ، والاستعارة أبلغ ؛ لأن العتو شدّة فيها تمرد. وقوله تعالى : (سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ. تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ) حقيقة الشهيق هاهنا الصوت الفظيع ؛ وهما لفظتان ، والشهيق لفظة واحدة فهو أوجز على ما فيه من زيادة البيان. وتميّز : حقيقته تنشق من غير تباين ، والاستعارة أبلغ ؛ لأن التميز فى الشىء هو أن يكون كلّ نوع منه مباينا لغيره وصائرا على حدته ، وهو أبلغ من الانشقاق ؛ لأن الانشقاق قد يحصل فى الشىء من غير تباين ، والغيظ