حتى لا يوقف على معناه إلا بالتوهّم. فمن الجنس الأول قول جرير (١) :
لو كنت أعلم أن آخر عهدكم |
|
يوم الرحيل فعلت ما لم أفعل |
فوجه الاشتراك فى هذا أنّ السامع لا يدرى إلى أىّ شيء أشار من أفعاله فى قوله : «فعلت ما لم أفعل». أراد أن يبكى إذا رحلوا ، أو يهيم على وجهه من الغمّ الذى لحقه ، أو يتبعهم إذا ساروا ، أو يمنعهم من المضىّ على عزمة الرحيل ، أو يأخذ منهم شيئا يتذكّرهم به ، أو يدفع إليهم شيئا يتذكرونه به ، أو غير ذلك ، مما يجوز أن يفعله العاشق عند فراق أحبته ، فلم يبن عن غرضه ؛ وأحوج السامع إلى أن يسأله عما أراد فعله عند رحيلهم.
وليس هذا كقولهم : لو رأيت عليا بين الصفين ؛ لأن دليل البسالة والنكاية فى هذا الكلام بيّن ؛ وأمارة النقصان فى بيت جرير واضحة ؛ فمن يسمعه وإن لم يكن من أهل البلاغة يستبرده ويستغثّه ، ويسترجع الآخر ويستجيده.
ومثله قول سعد بن مالك الأزدى :
فإنك لو لاقيت سعد بن مالك |
|
للاقيت منه بعض ما كان يفعل |
فلم يبن عما أراد بقوله يلقى. أخيرا أراد أم شرّا؟ إلا أن يسمع ما قبله أو ما بعده ؛ فيتبيّن معناه ، وأمّا فى نفس البيت فلا يتبيّن مغزاه.
ومثله قول أبى تمّام (٢) :
وقمنا فقلنا بعد أن أفرد الثرى |
|
به ما يقال فى السحابة تقلع |
فقول الناس فى السحاب إذا أقلع على وجوه كثيرة ؛ فمنهم من يمدحه ، ومنهم من يذمّه ، ومنهم من كان يحبّ إقلاعه ، ومنهم من يكره إقشاعه (٣) ، على حسب ما كانت حالاتها عندهم ، ومواقعها منهم ؛ فلم يبن بقوله ما يقال فى السحابة تقلع معنى يعتمده السامع. وأبين منه قول مسلم :
فاذهب كما ذهبت غوادى مزنة |
|
أثنى عليها السّهل والأوعار |
__________________
(١) ديوانه : ٤٤٣
(٢) ديوانه : ٣٧٣ ، وفيه «أفرد الندى»
(٣) أقشعت الريح السحاب : كشفته.