الفصل الحادى عشر
فى المبالغة
المبالغة |
المبالغة أن تبلغ بالمعنى أقصى غاياته ، وأبعد نهاياته ، ولا تقتصر فى العبارة عنه على أدنى منازله وأقرب مراتبه ؛ ومثاله من القرآن قول الله تعالى : (يَوْمَ (تَرَوْنَها) تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى). ولو قال : تذهل كل امرأة عن ولدها لكان بيانا حسنا وبلاغة كاملة ؛ وإنما خص المرضعة للمبالغة ، لأن المرضعة أشفق على ولدها لمعرفتها بحاجته إليها ، وأشغف به لقربه منها ولزومها له ، لا يفارقها ليلا ولا نهارا ، وعلى حسب القرب تكون المحبة والإلف ؛ ولهذا قال امرؤ القيس (١) :
فمثلك حبلى قد طرقت ومرضع |
|
فألهيتها عن ذى تمائم محول |
لما أراد المبالغة فى وصف محبّة المرأة له ، قال : إنى أليتها عن ولدها الذى ترضعه لمعرفته بشغفها به ، وشفقتها عليه فى حال إرضاعها إياه.
وقوله تعالى : (كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً) ، لو قال يحسبه الرائى لكان جيدا ؛ ولكن لما أراد المبالغة ذكر الظمآن ؛ لأن حاجته إلى الماء أشد ، وهو على الماء أحرص ؛ وقد ذكرناه قبل. ومثل ذلك قول دريد بن الصّمة (٢) :
متى ما تدع قومك أدع قومى |
|
وحولى من بنى جشم فئام (٣) |
فوارس بهمة حشد إذا ما |
|
بدا حضر الحيّية والحذام (٤) |
فالمبالغة الشديدة فى قوله : «الحيية». ومن المبالغة نوع آخر ، وهو أن يذكر المتكلم حالا لو وقف عليها أجزأته فى غرضه منها ، فيجاوز ذلك حتى يزيد فى المعنى
__________________
(١) ديوانه : ٢٤.
(٢) نقد الشعر : ٨٤.
(٣) الفئام : الجماعة من الناس.
(٤) البهمة : الشجاع.