الفصل السّابع عشر
فى التوشيح
التوشيح |
سمى هذا النوع التوشيح ، وهذه التسمية غير لازمة بهذا المعنى ، ولو سمى تبيينا لكان أقرب ، وهو أن يكون مبتدأ الكلام ينبئ عن مقطعه ؛ وأوله يخبر بآخره ، وصدره يشهد بعجزه ، حتى لو سمعت شعرا ، أو عرفت رواية ؛ ثم سمعت صدر بيت منه وقفت على عجزه قبل بلوغ السماع إليه ؛ وخير الشّعر ما تسابق صدوره وأعجازه ، ومعانيه وألفاظه ؛ فتراه سلسا فى النظام ، جاريا على اللسان ، لا يتنافى ولا يتنافر ؛ كأنه سبيكة مفرغة ، أو وشى منمنم ، أو عقد منظم من جوهر متشاكل ، متمكّن القوافى غير قلقة ، وثابتة غير مرجة ، ألفاظه متطابقة ، وقوافيه متوافقة ، ومعانيه متعادلة ، كلّ شيء منه موضوع فى موضعه ، وواقع فى موقعه ؛ فإذا نقض بناؤه ، وحلّ نظامه ، وجعل نثرا ؛ لم يذهب حسنه ، ولم تبطل جودته فى معناه ولفظه ؛ فيصلح نقضه لبناء مستأنف ، وجوهره لنظام مستقبل.
أمثلة من القرآن |
فمما فى كتاب الله عزوجل من هذا النوع قوله تعالى : (وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) ؛ فإذا وقفت على قوله تعالى : «فيما» ، عرف فيه السامع أن بعده «يختلفون» ، لما تقدم من الدلالة عليه.
وهكذا قوله تعالى : (قُلِ اللهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ) ذا وقف على «يكتبون» ، عرف أن بعده «ما يمكرون» ، لما تقدم من ذكر المكر.
وضرب منه آخر ، وهو أن يعرف السامع مقطع الكلام ، وإن لم يجد ذكره فيما تقدم ؛ وهو كقوله تعالى : (ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) ، فإذا وقف على قوله : «لننظر» مع ما تقدم من قوله تعالى : «جعلناكم خلائف فى الأرض» ، علم أن بعده : «تعملون» ، لأن المعنى يقتضيه.