الفصل الثّانى
فى ذكر المقاطع والقول فى الفصل والوصل
البلاغة معرفة الفصل والوصل |
قيل للفارسى : ما البلاغة؟ فقال : معرفة الفصل من الوصل. وقال المأمون لبعضهم : من أبلغ الناس؟ فقال : من قرّب الأمر البعيد المتناول ، والصّعب الدرك بالألفاظ اليسيرة ، قال : ما عدل سهمك عن الغرض. ولكن البليغ من كان كلامه فى مقدار حاجته ، ولا يجيل الفكرة فى اختلاس ما صعب عليه من الألفاظ ، ولا يكره المعانى على إنزالها فى غير منازلها ، ولا يتعمّد الغريب الوحشىّ ، ولا الساقط السّوقىّ ؛ فإن البلاغة إذا اعتزلتها المعرفة بمواضع الفصل والوصل كانت كاللآلئ بلا نظام.
وقال أبو العباس السفاح لكاتبه : قف عند مقاطع الكلام وحدوده ؛ وإيّاك أن تخلط المرعىّ بالهمل (١). ومن حلية البلاغة المعرفة بمواضع الفصل والوصل.
وقال الأحنف بن قيس : ما رأيت رجلا تكلّم فأحسن الوقوف عند مقاطع الكلام ، ولا عرف حدوده إلا عمرو بن العاص رضى الله عنه ، كان إذا تكلم تفقد مقاطع الكلام ، وأعطى حقّ المقام ، وغاص فى استخراج المعنى بألطف مخرج ؛ حتى كان يقف عند المقطع وقوفا يحول بينه وبين تبيعته من الألفاظ ، وكان كثيرا ما ينشد :
إذا ما بدا فوق المنابر قائلا |
|
أصاب بما يومى إليه المقاتلا |
ولا أعرف فصلا فى كلام منثور أحسن مما أخبرنا به أبو أحمد ، قال : حدثنا الصّولى ، قال : حدثنا محمد بن زكريا ، قال : حدثنى العتبى عن أبيه ، قال : كان شبيب ابن شبّة يوما قاعدا بباب المهدى ، فأقبل عبد الصمد بن الفضل الرّقاشىّ ، فلما رآه قال : أتاكم والله كليم الناس. فلما جلس قال شبيب : تكلم يا أبا العباس ، فقال :
__________________
(١) أصله من المثل : «ليس المرعى كالهمل» ، والمرعى : الذى له راع ، والهمل : المتروك سدى.