وأما قوله : «وقصد إلى الحجّة» ، فقد ذكرنا الكلام فيه.
وقال محمد بن على رضى الله عنهما : البلاغة قول مفقه (١) فى لطف ؛ فالمفقه : المفهم ، واللّطيف من الكلام : ما تعطف به القلوب النافرة ، ويؤنس القلوب المستوحشة ، وتلين به العريكة الأبيّة المستصعبة ، ويبلغ به الحاجة ، وتقام به الحجّة ؛ فتخلص نفسك من العيب ، ويلزم صاحبك الذنب ، من غير أن تهيجه (٢) وتقلقه ، وتستدعى غضبه ، وتستثير حفيظته.
كقول بعض الكتّاب لأخ له : أنفذ إلىّ أبو فلان كتابا منك ؛ فيه ذرّ (٣) من عتاب ، كان أحلى عندى من تعريسة الفجر (٤) ، وألذّ من الزّلال العذب ، ولك العتبى داعيا مستجابا له ، وعاتبا معتذرا إليه. ولو شئت مع هذا أن أقول : إنّ العتب عليك أوجب ، والاعتذار لك ألزم لفعلت ، ولكنى أسامحك ولا أشاحك (٥) ، وأسلّم إليك ولا أرادّك ؛ لأنّ أفعالك عندى مرضية ، وشيمك لدىّ مقبولة ، ولو لا أنّ للحجّة موقعها لأعرضت عما أومأت إليه وما عرضت مما بدأت به ، وقلت :
إذا مرضنا أتيناكم نعودكم |
|
وتذنبون فنأتيكم فنعتذر |
فانظر كيف خلّص نفسه من الجرم ، وأوجبه لصاحبه فى ألطف وجه ، وألين مسّ.
ومن الكلام الذى يعطف القلوب النافرة قول آخر لأخ له : زيّن الله ألفتنا بمعاودة صلتك ، واجتماعنا بترادف زيارتك ، وأيامنا الموحشة ـ لغيبتك ـ برؤيتك ؛ توعّدتنى بالانتقام على إخلالى بمطالعتك ، وحسبى من عقوبتك ما ابتليت به من عدم مشاهدتك.
وقال علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه : البلاغة إيضاح الملتبسات ، وكشف
__________________
(١) فقهه كعلمه : فهمه ، وفقهه تفقيها : علمه ، كأفقهه.
(٢) هاجه : أثاره.
(٣) أصل الذر صغار النمل ، ولعله يريد : قليل من عتاب.
(٤) التعريس : نزول القوم فى السفر آخر الليل.
(٥) تشاحا على الأمر : لا يريدان أن يفوتهما.