عوّار (١) الجهالات ، بأسهل ما يكون من العبارات.
وقريب منه قول الحسن بن على رضى الله عنهما : البلاغة تقريب بعيد الحكمة بأسهل العبارة.
ومثله قول محمد بن على رضى الله عنهما : البلاغة تفسير عسير الحكمة بأقرب الألفاظ. وقد مضى فيما تقدّم من كلامنا ما يكون مثالا لهذه الفصول.
وأنا أورد هاهنا فصلا ينشرح به أبوابها ، ويتّضح وجوهها. أخبرنى أبو أحمد عن أبيه عن عسل بن ذكوان ، قال : قال المأمون لمرتدّ عن الإسلام إلى النصرانية : أى شيء أوحشك من الإسلام فتركته ؛ قال : أوحشنى ما رأيت من كثرة الاختلاف فيكم. فقال المأمون : لنا اختلافان : أحدهما كاختلافنا فى الأذان ، وتكبير الجنائز ، والاختلاف فى التشهد ، وفى صلاة الأعياد ، وتكبير التشريق ، ووجوه القراءات ، واختلاف وجوه الفتيا ، وما أشبه ذلك. وليس هذا باختلاف ؛ وإنما ذلك توسعة وتخفيفا من المحنة. والاختلاف الآخر كنحو اختلافنا فى تأويل الآية من كتابنا ، وتأويل الخبر عن نبيّنا عليه الصلاة والسلام ، مع إجماعنا على أصل التنزيل ، واتفاقنا على عين الخبر.
فإن كان الذى أوحشك هو هذا حتى أنكرت هذا الكتاب فينبغى أن يكون اللفظ بجميع التوراة والإنجيل متّفقا على تأويله ، كما يكون متّفقا على تنزيله ، ولا يكون بين النصارى اختلاف فى شيء من التأويلات. ولو شاء الله أن ينزّل كتبه ويجعل كلام أنبيائه ، وورثة رسله كلاما لا يحتاج إلى التفسير لفعل ؛ ولكننا لم نر شيئا من الدّين والدنيا دفع إلينا على الكفاية. ولو كان الأمر كذلك لسقطت المحنة والبلوى ، وذهبت المسابقة والمنافسة ، ولم يكن تفاضل ؛ وليس على هذا بنى الله الدنيا.
__________________
(١) العوار : كل ما أعل العين ، والرمد والقذى.