والبدوى ، وإنما هو فى جودة اللفظ وصفائه ، وحسنه وبهائه ، ونزاهته ونقائه ؛ وكثرة طلاوته ومائه ، مع صحة السّبك والتركيب ، والخلوّ من أود (١) النّظم والتأليف. وليس يطلب من المعنى إلا أن يكون صوابا ، ولا يقنع من اللفظ بذلك حتى يكون على ما وصفناه من نعوته التى تقدّمت.
ألا ترى إلى قول حبيب (٢) :
مستسلم لله سائس أمة |
|
بذوى تجهضمها له استسلام |
فإنه صواب اللفظ ، وليس هو بحسن ولا مقبول ـ (الجهضمة ، الوثوب والغلبة).
وقال أبو داود : رأس الخطابة الطّبع ، وعمودها الدّربة ، وجناحها رواية الكلام ، وحليها الإعراب ، وبهاؤها تخيّر الألفاظ ؛ والمحبّة مقرونة بقلّة الاستكراه. وأنشد :
يرمون بالخطب الطوال وتارة |
|
وحى الملاحظ خشية الرّقباء |
ومن الدليل على أنّ مدار البلاغة على تحسين اللفظ أنّ الخطب الرائعة ، والأشعار الرائقة ما عملت لإفهام المعانى فقط ؛ لأنّ الردىء من الألفاظ يقوم مقام الجيدة منها فى الإفهام ، وإنما يدلّ حسن الكلام ، وإحكام صنعته ، ورونق ألفاظه ، وجودة مطالعه ، وحسن مقاطعه ، وبديع مباديه ، وغريب مبانيه على فضل قائله ، وفهم منشئه.
وأكثر هذه الأوصاف ترجع إلى الألفاظ دون المعانى. وتوخّى صواب المعنى أحسن من توخّى هذه الأمور فى الألفاظ. ولهذا تأنّق الكاتب فى الرسالة ، والخطيب فى الخطبة ، والشاعر فى القصيدة. يبالغون فى تجويدها ، ويغلون فى ترتيبها ؛ ليدلّوا على براعتهم ، وحذقهم بصناعتهم ؛ ولو كان الأمر
__________________
(١) عوج.
(٢) ديوانه ٢٨٠