الاستعمال جعلت تسمية المتكلّم بأنه بليغ كالحقيقة ، كما أنها جعلت تسمية المزادة راوية كالحقيقة ، وكان الراوية حامل المزادة وهو البعير وما يجرى مجراه.
ولهذا سمّى حامل الشعر راوية ، وكما صار تسمية البغىّ المكتسبة بالفجور القحبة حقيقة ، وإنما القحاب السّعال. وكانوا إذا أرادوا الكناية عن زنت وتكسّبت بالفجور قالوا : قحبت ، أى سعلت.
ومن ذلك النّجو ؛ لأنّ الرجل كان إذا أراد قضاء الحاجة استتر بنجوة ، والنجوة : الارتفاع من الأرض ؛ فسمّى ذلك الشىء نجوا مجازا ، ثم كثر استعمالهم له فصار كالحقيقة وصرّفوه ، فقالوا : ذهب ينجو ، كما يقال : ذهب يتغوّط ، إذا صار إلى الغائط ، وهو البطن من الأرض لقضاء الحاجة ، وسمّوا الشىء الغائط ، وصار كالحقيقة حين كثر استعمالهم له. وقالوا ، إذا غسل ذلك الموضع من النجو : يستنجي ، ومثل هذا كثير ليس هذا موضع استيعابه.
الفصاحة |
فأما الفصاحة فقد قال قوم : إنها من قولهم : أفصح فلان عما فى نفسه إذا أظهره ، والشاهد على أنها هى الإظهار قول العرب : أفصح الصبح إذا أضاء.
وأفصح اللبن إذا انجلت عنه رغوته فظهر. وفصح أيضا. وأفصح الأعجمىّ إذا أبان بعد أن لم يكن يفصح ويبين ؛ وفصح اللحان إذا عبّر عما فى نفسه وأظهره على جهة الصواب دون الخطأ.
وإذا كان الأمر على هذا فالفصاحة والبلاغة ترجعان إلى معنى واحد وإن اختلف أصلاهما ؛ لأنّ كلّ واحد منهما إنما هو الإبانة عن المعنى والإظهار له.
الفرق بين الفصاحة والبلاغة |
وقال بعض علمائنا : الفصاحة تمام آلة البيان ؛ فلهذا لا يجوز أن يسمّى الله تعالى فصيحا ؛ إذ كانت الفصاحة تتضمّن معنى الآلة ولا يجوز على الله تعالى الوصف بالآلة ؛ ويوصف كلامه بالفصاحة ؛ لما يتضمّن من تمام البيان.
والدليل على ذلك أن الألثغ والتمتام لا يسمّيان فصيحين لنقصان آلتهما عن إقامة