الحكمة في بثّه وإشاعته.
٤ ـ وحسبك منها ما قام به أمير المؤمنين أيّام خلافته ؛ إذ جمع الناس في الرحبة فقال : أُنشد الله كلّ امرىَ مسلم سمع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول يوم غدير خمّ ما قال ، إلاّ قام فشهد بما سمع ، ولايقم إلاّ من رآه بعينيه وسمعه بأُذنيه.
فقام ثلاثون صحابياً فيهم اثنا عشر بدرياً ، فشهدوا أنّه أخذه بيده ، فقال للناس : أتعلمون أنّي أوْلى بالمؤمنين من أنفسهم؟! قالوا : نعم ، قال صلّى الله عليه وآله وسلّم : مَن كنت مولاه فهذا مولاه ، اللّهمّ والِ من والاه ، وعادِ من عاداه .. الحديث.
وأنت تعلم أنّ تواطؤ الثلاثين صحابياً على الكذب ممّا يمنعه العقل ، فحصول التواتر بمجرّد شهادتهم ـ إذن ـ قطعي لا ريب فيه ، وقد حمل هذا الحديث عنهم كلّ مَن كان في الرحبة من تلك الجموع ، فبثّوه بعد تفرّقهم في البلاد ، فطار كلّ مطير.
ولا يخفى أنّ يوم الرحبة إنّما كان في خلافة أمير المؤمنين ، وقد بويع سنة خمس وثلاثين ، ويوم الغدير إنّما كان في حجّة الوداع سنة عشر ، فبين اليومين ـ في أقلّ الصور ـ خمس وعشرون سنة ، كان في خلالها طاعون عمواس ، وحروب الفتوحات والغزوات على عهد الخلفاء الثلاثة ..
وهذه المدّة ـ وهي ربع قرن ـ بمجرّد طولها وبحروبها وغاراتها ، وبطاعون عمواسها الجارف ، قد أفنت جلّ من شهد يوم الغدير من شيوخ الصحابة وكهولهم ، ومن فتيانهم المتسرعين ـ في الجهاد ـ إلى لقاء الله عزّ وجلّ ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم ، حتّى لم يبق منهم حيّاً بالنسبة إلى مَن مات إلاّ قليل ..