فإنّها قد رفضت مَن كانَ أشغَفَ بها منكم» (١).
واعتمدت أداءات نهج البلاغة الفكرية على الدعوة إلى ممارسة الزهد ، وأرادت للإنسان اتّخاذه منهجاً دينيّاً ، وأُسلوباً للعيش ، وطريقة تعامل في الحياة ، وتمنّت له أنْ يكون شعائر يوميّة ، وطقوساً إنسانيّة تؤدّى كلّ حين ، بطريقة توحي أنّ هذه الدعوات كلّها انطلقت من نفس مطمئنّة إلى اليوم الآخر ; طلّقت الدنيا ، وربطت مصيرها بحياة ما بعد الموت ، وأيقنت أنّ سنين الحياة هي هبة الله للإنسان ، يمنحها كي يدّخر عملاً صالحاً لآخرته.
لقد جاء التحذير من الغفلة في النهج شديداً ، والتوبيخ قاسياً ، وتعدّدت أساليبُه ، وجدّت في التنبيه إلى أنّ النضال في الدنيا ، والكدّ ، والدأب ، والنشاط ، والمدافعة فيها ، لا جدوى منه إنْ لم تُحسَب منفعته في البقاء الأُخرويّ السرمديّ ; بمعنى : إنّه لا بُدّ من استثمار الدنيا لصالح الآخرة ..
وتكرّرت الدعوات اللافتة إلى النفعية الأُخرويّة في ظلّ ظروف اتّجه فيها كثير من المسلمين إلى التراخي في التمسّك الأُصولي بالدين ، وفتر الوازع الزاهد في نفوس بعضهم ، واتّجهوا إلى جمع المال ، وانشغلوا بلذيذ العيش ..
____________
(١) شرح نهج البلاغة ـ لمحمّد عبده ـ ١ / ٧٥ ..
الحُثالة ـ بالضم ـ : القُشارة وما لا خير فيه ; وأصله ما يسقط من كلّ ذي قشر.
القَرَظ : ورق السلم ، أو ثمر السنط ، يُدَبَغُ به.
الجَلَم : مقراظ يُجَزُّ به الصوف ; وقراضته : ما يسقط منه عند القرض والجزّ.
أشغف بها : أشـدّ تعلّقاً بها.