وليس هذا فحسب ، بل إنّه كثيراً ما يسترفد العِبرةَ ، ويبثّ الحكمة ، ويستخلص النصيحة ، بالاعتماد على تجربة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) مع أعمامه وعشيرته الأقربين ، وعلى الصراع غير المتكافئ بين الإسلام والشرك ، والقوّة القليلة التي غلبت فئةً كثيرة بإذن الله ، كي يتّخذ من هذا كلّه ، وذاك كلّه ، برهاناً على صدق التجربة الزهدّية المأخوذة من صميم الإسلام ، والتي ينادي بها ويسعى لتحقيقها ..
«لقد كنّا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، نقتل آباءنا وأبناءنا وإخواننا وأعمامنا ، ما يزيدُنا ذلك إلاّ إيماناً وتسليماً ، ومُضيّاً على اللَقَمِ ، وصبراً على مَضَضِ الألم ، وجـدّاً في جهاد العدوِّ ..
ولقد كان الرَجل منّا والآخرُ من عدوِّنا يتصاوَلانِ تصاوُلَ الفَحْلين ، يتخالسانِ أنفسهَما ، أيُّهما يسقي صاحبَه كأسَ المنون ، فمرّةً لنا من عدوِّنا ، ومرّة لعدوّنا منّا ، فلمّا رأى الله صِدْقَنا أنزل بعدوّنا الكَبْتَ ، وأنزلَ علينا النصر ، حتّى استقرّ الإسلام مُلقِياً جِرانَه ، ومتبوِّئاً أوطانه» (١).
مضامين وحدانيّة الله عزّ وجلّ في نهج البلاغة :
في الفلسفة الوجوديّة ، يفصل موضوع الإيمان بوجود الله وإنكار
____________
(١) شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ ٤ / ٣٣ ..
اللَّقَم : معظم الطريق أو جادّته.
مضض الألم : لذعته.
التصاول : أن يحمل كلّ واحد من النِدَّين على صاحبه.
يتخالسان أنفسهما : كلّ منهما يطلب اختلاس روع الآخر.
الكبْت : الإذلال.
جران البعير : مقدّم عنقه من مذبحه إلى مَنْحَرِه ، وإلقاء الجِران : كناية عن التمكّن.