الأديان ، قاله ابن عباس ، واختاره الفرّاء ، والدّمشقيّ. والثاني : اصطفاهم بالنّبوة ، قاله الحسن ، ومجاهد ، ومقاتل. والثالث : اصطفاهم بتفضيلهم في الأمور التي ميّزهم بها على أهل زمانهم. والمراد ب «العالمين» : عالمو زمانهم ، كما ذكرنا في «البقرة».
(ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٣٤))
قوله تعالى : (ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ) ، قال الزجّاج : نصبها على البدل ، والمعنى : اصطفى ذرّية بعضها من بعض. قال ابن الأنباريّ : وإنما قال : بعضها ، لأن لفظ الذّرّيّة مؤنث ، ولو قال : بعضهم ، ذهب إلى معنى الذّرّيّة. وفي معنى هذه البعضيّة قولان : أحدهما : أن بعضهم من بعض في التّناصر والدّين ، لا في التّناسل ، وهو معنى قول ابن عباس ، وقتادة. والثاني : أنه في التّناسل ، لأن جميعهم ذرّيّة آدم ، ثم ذريّة نوح ، ثم ذريّة إبراهيم ، ذكره بعض أهل التفسير. قال أبو بكر النّقاش : ومعنى قوله : (ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ) أن الأبناء ذريّة للآباء ، والآباء ذريّة للأبناء ؛ كقوله تعالى : (حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) (١) ، فجعل الآباء ذريّة للأبناء ، وإنما جاز ذلك ، لأن الذرّيّة مأخوذة من قوله : ذرأ الله الخلق ، فسمّي الولد للوالد ذريّة ، لأنه ذرئ منه ، وكذلك يجوز أن يقال للأب : ذريّة للابن ، لأن ابنه ذرئ منه ، فالفعل يتصل به من الوجهين ، ومثله : (يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ) ، فأضاف الحبّ إلى الله ، والمعنى : كحبّ المؤمن لله ، ومثله (وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ) ، فأضاف الحبّ إلى الطعام.
(إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٥))
قوله تعالى : (إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ) ، في «إذ» قولان : أحدهما : أنها زائدة ، واختاره أبو عبيدة ، وابن قتيبة. والثاني : أنها أصل في الكلام ، وفيها ثلاثة أقوال : أحدها : أن المعنى : اذكر إذ قالت امرأة عمران ، قاله المبرّد ، والأخفش. والثاني : أن العامل في (إِذْ قالَتِ) معنى الاصطفاء ، فيكون المعنى : اصطفى آل عمران ، إذ قالت امرأة عمران ، واصطفاهم إذ قالت الملائكة : يا مريم ، هذا اختيار الزجّاج. والثالث : أنها من صلة «سميع» تقديره : والله سميع إذ قالت ، وهذا اختيار ابن جرير الطّبريّ. قال ابن عباس : واسم امرأة عمران حنّة ، وهي أمّ مريم ، وهذا عمران بن ماتان ، وليس ب «عمران أبي موسى» ، وليست هذه مريم أخت موسى. وبين عيسى وموسى ألف وثمانمائة سنة. والمحرّر : العتيق. قال ابن قتيبة : يقال : أعتقت الغلام ، وحرّرته : سواء. وأرادت : أي : نذرت أن أجعل ما في بطني محرّرا من التّعبيد للدنيا ، ليعبدك. وقال الزجّاج : كان على أولادهم فرضا أن يطيعوهم في نذرهم ، فكان الرجل ينذر في ولده أن يكون خادما في متعبّدهم. وقال ابن إسحاق : كان السبب في نذرها أنه أمسك عنها الولد حتى أسنّت ، فرأت طائرا يطعم فرخا له ، فدعت الله أن يهب لها ولدا ، وقالت : اللهمّ لك عليّ إن رزقتني ولدا أن أتصدّق به على بيت المقدّس ، فحملت بمريم ، وهلك عمران ، وهي حامل. قال القاضي أبو يعلى : والنّذر في مثل ما نذرت صحيح في شريعتنا ، فإنه إذا نذر الإنسان أن ينشئ ولده الصغير على عبادة الله وطاعته ، وأن يعلّمه القرآن ، والفقه ، وعلم الدّين ، صحّ النّذر.
__________________
(١) يس : ٤١.