خَيْرُ الْماكِرِينَ) ، لأن مكره مجازاة ، ونصر للمؤمنين. قال ابن عباس : ومكرهم ، أن اليهود أرادوا قتل عيسى ، فدخل خوخة (١) ، فدخل رجل منهم ، فألقي عليه شبه عيسى ، ورفع عيسى إلى السماء ، فلما خرج إليهم ، ظنّوه عيسى ، فقتلوه.
(إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٥٥))
قوله تعالى : (إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ) قال ابن قتيبة : التّوفّي ، من استيفاء العدد يقال :
توفّيت ، واستوفيت ، كما يقال : تيقّنت الخبر ، واستيقنته ، ثم قيل للموت : وفاة ، وتوفّ. وأنشد أبو عبيدة (٢) :
إنّ بني الأدرد ليسوا من أحد |
|
ليسوا إلى قيس وليسوا من أسد |
ولا توفّاهم قريش في العدد أي : لا تجعلهم وفاء لعددها ، والوفاء : التّمام. وفي هذا التّوفّي قولان : أحدهما : أنه الرّفع إلى السماء. والثاني : أنه الموت. فعلى القول الأول يكون نظم الكلام مستقيما من غير تقديم ولا تأخير ، ويكون معنى «متوفّيك» قابضك من الأرض وافيا تاما من غير أن ينال منك اليهود شيئا ، هذا قول الحسن ، وابن جريج ، وابن قتيبة ، واختاره الفرّاء. ومما يشهد لهذا الوجه قوله تعالى : (فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ) (٣) ، أي : رفعتني إلى السماء من غير موت ، لأنّهم إنما بدّلوا بعد رفعه ، لا بعد موته. وعلى القول الثاني يكون في الآية تقديم وتأخير ، وتقديره : إنّي رافعك إليّ ومطهّرك من الذين كفروا ، ومتوفّيك بعد ذلك ، هذا قول الفرّاء ، والزّجّاج في آخرين. فتكون الفائدة في إعلامه بالتّوفّي تعريفه أن رفعه إلى السماء لا يمنع من موته (٤). قال سعيد بن المسيّب : رفع عيسى وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة. وقال مقاتل : رفع من بيت المقدس ليلة القدر في رمضان. وقيل : عاشت أمّه مريم بعد رفعه ستّ سنين. ويقال : ماتت قبل رفعه.
قوله تعالى : (وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) فيه قولان : أحدهما : أنه رفعه من بين أظهرهم. والثاني : منعهم من قتله (٥). وفي الذين اتبعوه قولان : أحدهما : أنهم مسلمون من أمّة محمّد عليهالسلام ، لأنهم صدّقوا بنبوّته ، وأنه روح الله وكلمته ، وهذا قول قتادة ، والرّبيع ، وابن السّائب. والثاني :
__________________
(١) في «اللسان» : الخوخة : مخترق ما بين كل دارين لم ينصب عليها باب.
(٢) الرجز لمنظور الوبري. انظر «اللسان» مادة (وفي)
(٣) المائدة : ١١٧.
(٤) قال ابن كثير رحمهالله ١ / ٣٦٦ : قال الأكثرون : المراد بالوفاة هاهنا النوم ، كما قال تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ). وقال تعالى : (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها). وكان رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول إذا قام من النوم : «الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا» الحديث. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن أنه قال : في قوله تعالى : (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ) يعني وفاة المنام رفعه الله في منامه. قال الحسن : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم لليهود «إن عيسى لم يمت وإنه راجع إليكم قبل يوم القيامة».
(٥) وقع في المطبوع : قبله ، والتصويب من «تفسير الماوردي» ١ / ٣٩٧.