قوله تعالى : (فَمَنْ زُحْزِحَ) قال ابن قتيبة : نجّي وأبعد. (فَقَدْ فازَ) قال الزجّاج : تأويل فاز. تباعد عن المكروه ولقي ما يحبّ ، يقال لمن نجا من هلكة ولمن لقي ما يغتبط به : قد فاز.
قوله تعالى : (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ) يريد أنّ العيش فيها يغرّ الإنسان بما يمنّيه من طول البقاء ، وسيقطع عن قريب. قال سعيد بن جبير : هي متاع الغرور لمن لم يشتغل بطلب الآخرة ، فأما من يشتغل بطلب الآخرة ، فهي له متاع بلاغ إلى ما هو خير منها.
(لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (١٨٦))
قوله تعالى : (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ) في سبب نزولها خمسة أقوال :
(٢٤٦) أحدها : أن النبيّ صلىاللهعليهوسلم مرّ بمجلس فيه عبد الله بن أبيّ ، وعبد الله بن رواحة ، فغشي المجلس عجاجة الدّابة ، فخمّر ابن أبيّ أنفه بردائه ، وقال : لا تغبّروا علينا ، فنزل رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، ثم دعاهم إلى الله ، وقرأ عليهم القرآن ، فقال ابن أبيّ : إنه لا أحسن ممّا تقول ، إن كان حقّا فلا تؤذنا في مجالسنا. وقال ابن رواحة : اغشنا به في مجالسنا يا رسول الله ، فإنّا نحبّ ذلك ، فاستبّ المسلمون ، والمشركون ، واليهود ، فنزلت هذه الآية ، رواه عروة عن أسامة بن زيد.
والثاني : أن المشركين واليهود كانوا يؤذون النبيّ صلىاللهعليهوسلم وأصحابه أشدّ الأذى ، فنزلت هذه الآية ، قال كعب بن مالك الأنصاريّ. والثالث : أنها نزلت فيما جرى بين أبي بكر الصّديق ، وبين فنحاص اليهوديّ (١) ، وقد سبق ذكره عن ابن عباس. والرابع : أنها نزلت في النبيّ صلىاللهعليهوسلم وأبي بكر الصّدّيق ، قاله أبو صالح عن ابن عباس. واختاره مقاتل. وقال عكرمة : نزلت في النبيّ صلىاللهعليهوسلم ، وأبي بكر الصّدّيق ، وفنحاص اليهوديّ (٢).
(٢٤٧) والخامس : أنها نزلت في كعب بن الأشرف ، كان يحرّض المشركين على رسول الله صلىاللهعليهوسلم
____________________________________
(٢٤٦) صحيح. أخرجه البخاري ٢٩٨٧ ومسلم ١٧٩٨ والطبراني في الكبير ١ / ٣٨٩ من حديث أسامة بن زيد.
تنبيه : لفظ الحديث عند البخاري والطبراني .... قال الله عزوجل (وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ ...) وليس لها ذكر عند مسلم. ولفظ فأنزل الله عند الواحدي والله أعلم بالصواب.
(٢٤٧) أخرجه الطبري ٨٣١٧ عن الزهري مرسلا. وأخرجه البيهقي في «الدلائل» ٣ / ١٩٦ ـ ١٩٨ عن الزهري عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك مرسلا. وخبر كعب بن الأشرف صحيح ، لكن ليس فيه نزول الآية ، فقد أخرج البخاري ٢٥١٠ و ٣٠٣١ و ٣٠٣٢ و ٤٠٣٧ ومسلم ١٨٠١ وأبي داود ٢٧٦٨ من حديث جابر رضي الله عنه. يقول : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «من لكعب بن الأشرف؟ فإنه آذى الله ورسوله صلىاللهعليهوسلم» : فقال محمد بن مسلمة : أنا ، فأتاه فقال : أردنا أن تسلفنا وسقا أو وسقين. فقال : ارهنوني نساءكم قالوا كيف نرهنك نساءنا وأنت أجمل العرب؟ قال فارهنوني أبناءكم. قالوا كيف نرهن أبناءنا فيسب أحدهم فيقال : رهن بوسق أو وسقين؟ هذا عار علينا ، ولكنا نرهنك اللأمة ـ قال سفيان : يعني السلاح ـ فوعده أن يأتيه ، فقتلوه ، ثم أتوا النبي صلىاللهعليهوسلم فأخبروه». وورد بألفاظ أخرى.
__________________
(١) تقدم.
(٢) تقدم.