وقوله تعالى : (فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ). من مجاز الكلام ، لأن التجارة لا تربح ، وإنما يربح فيها ، ومثله قوله تعالى : (بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) (١) ، يريد : بل مكرهم في الليل والنهار. ومثله : (فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ) (٢) ، أي : عزم عليه. وأنشدوا (٣) :
حارث قد فرّجت عنّي همّي |
|
فنام ليلي وتجلّى غمّي |
والليل لا ينام ، بل ينام فيه ، وإنما يستعمل مثل هذا فيما يزول فيه الإشكال ويعلم مقصود قائله ، فأمّا إذا أضيف إلى ما يصلح أن يوصف به ، وأريد به ما سواه ، لم يجز ، مثل أن يقول : ربح عبدك ، وتريد : ربحت في عبدك. وإلى هذا المعنى ذهب الفرّاء وابن قتيبة والزّجّاج.
قوله تعالى : (وَما كانُوا مُهْتَدِينَ). فيه خمسة أقوال : أحدها : وما كانوا في العلم بالله مهتدين.
والثاني : وما كانوا مهتدين من الضلالة. والثالث : وما كانوا مهتدين إلى تجارة المؤمنين. والرابع : وما كانوا مهتدين في اشتراء الضلالة. والخامس : أنه قد لا يربح التاجر ويكون على هدى من تجارته غير مستحقّ للذّم فيما اعتمده ، فنفى الله عزوجل عنهم الأمرين مبالغة في ذمّهم.
(مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ (١٧))
قوله تعالى : (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً). هذه الآية نزلت في المنافقين. والمثل بتحريك الثاء : ما يضرب ويوضع لبيان النّظائر في الأحوال.
وفي قوله تعالى : (اسْتَوْقَدَ) قولان : أحدهما : أن السين زائدة ، وأنشدوا (٤) :
وداع دعا يا من يجيب إلى النّدى |
|
فلم يستجبه عند ذاك مجيب |
أراد : فلم يجبه ، وهذا قول الجمهور ، منهم الأخفش وابن قتيبة.
والثاني : أن السين داخلة للطلب ، أراد : كمن طلب من غيره نارا.
وفي (أَضاءَتْ) قولان : أحدهما : أنه من الفعل المتعدّى ، قال الشاعر :
أضاءت لهم أحسابهم ووجوههم |
|
دجى الليل حتى نظم الجزع ثاقبه (٥) |
وقال آخر (٦) :
أضاءت لنا النار وجها أغر |
|
ملتبسا بالفؤاد التباسا |
والثاني : أنه من الفعل اللازم. قال أبو عبيد : يقال : أضاءت النّار ، وأضاءها غيرها. وقال الزّجّاج : يقال : ضاء القمر ، وأضاء.
وفي «ما» قولان : أحدهما : أنها زائدة ، تقديره : أضاءت حوله. والثاني : أنها بمعنى الذي.
__________________
(١) سبأ : ٣٣.
(٢) محمد : ٢١.
(٣) هو لرؤبة بن العجّاج يمدح الحارث بن سليم.
(٤) هو لكعب بن سعد الغنوي ، يرثي أخاه أبا المغوار. انظر «تفسير القرطبي» ١ / ٢٥٧ بتخريجي.
(٥) في «القاموس» : الجزع : الخرز اليماني ، تشبّه به الأعين.
(٦) هو النابغة الجعدي.