والثالث : أنه لم يرد يوما بعينه ، وإنما المعنى : الآن يئسوا ، كما تقول : أنا اليوم قد كبرت ، قاله الزجّاج. قال ابن الأنباريّ : العرب توقع اليوم على الزّمان الذي يشتمل على السّاعات والليالي ، فيقولون : قد كنت في غفلة ، فاليوم استيقظت ، يريدون : فالآن ، ويقولون : كان فلان يزورنا ، وهو اليوم يجفونا ، ولا يقصدون باليوم قصد يوم واحد. قال الشاعر :
فيوم علينا ويوم لنا |
|
ويوم نساء ويوم نسر (١) |
أراد : فزمان لنا ، وزمان علينا ، ولم يقصد ليوم واحد لا ينضمّ إليه غيره.
وفي معنى يأسهم قولان : أحدهما : أنهم يئسوا أن يرجع المؤمنون إلى دين المشركين ، قاله ابن عباس والسّدّي. والثاني : يئسوا من بطلان الإسلام ، قاله الزجّاج. قال ابن الأنباريّ : وإنّما يئسوا من إبطال دينهم لمّا نقل الله خوف المسلمين إليهم. وأمّنهم إلى المسلمين ، فعلموا أنهم لا يقدرون على إبطال دينهم ، ولا على استئصالهم ، وإنّما قاتلوهم بعد ذلك ظنا منهم أن كفرهم يبقى. قوله تعالى : (فَلا تَخْشَوْهُمْ) قال ابن جريج : لا تخشوهم أن يظهروا عليكم ، وقال ابن السّائب : لا تخشوهم أن يظهروا على دينكم ، واخشوني في مخالفة أمري.
قوله تعالى : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ).
(٣٩٧) روى البخاريّ ، ومسلم في «الصّحيحين» من حديث طارق بن شهاب قال : جاء رجل من اليهود إلى عمر فقال : يا أمير المؤمنين إنّكم تقرؤون آية من كتابكم لو علينا معشر اليهود نزلت ، لاتّخذنا ذلك اليوم عيدا ، قال : وأيّ آية هي؟ قال : قوله تعالى : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) فقال عمر : إني لأعلم اليوم الذي نزلت فيه على رسول الله ، والساعة التي نزلت فيها ، والمكان الذي نزلت فيه على رسول الله وهو قائم بعرفة في يوم جمعة. وفي لفظ «نزلت عشيّة عرفة» قال سعيد بن جبير : عاش رسول الله صلىاللهعليهوسلم بعد ذلك أحدا وثمانين يوما (٢).
فأمّا قوله تعالى : (الْيَوْمَ) ففيه قولان : أحدهما : أنه يوم عرفة ، وهو قول الجمهور. والثاني : أنه ليس بيوم معيّن ، رواه عطيّة عن ابن عباس ، وقد ذكرنا هذا آنفا.
وفي معنى إكمال الدّين خمسة أقوال (٣) : أحدها : أنه إكمال فرائضه وحدوده ، ولم ينزل بعد هذه
____________________________________
(٣٩٧) صحيح. أخرجه البخاري ٤٥ و ٤٤٠٧ و ٤٦٠٦ و ٧٢٦٨ ومسلم ٣٠١٧ والترمذي ٣٠٤٣ والنسائي ٨ / ١١٤ وأحمد ١ / ٢٨ والطبري ١١٠٩٨ و ١١٠٩٩ عن طارق بن شهاب عن عمر به.
__________________
(١) البيت للنمر بن تولب كما في «الشواهد الكبرى» للعيني ١ / ٥٦٥.
(٢) هو مرسل ، وتقدم في أواخر سورة البقرة.
(٣) قال الإمام الطبري رحمهالله في «تفسيره» ٤ / ٤١٩ : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب ، أن يقال : إن الله عزوجل أخبر نبيه صلىاللهعليهوسلم والمؤمنين به ، أنه أكمل لهم يوم أنزل هذه الآية على نبيه دينهم بإفرادهم البلد الحرام وإجلائه عنه المشركين ، حتى حجه المسلمون دونهم لا يخالطونهم المشركون. فأما الفرائض والأحكام ، فإنه قد اختلف فيها : هل كانت أكملت ذلك اليوم ، أم لا؟ ولا يدفع ذو علم أن الوحي لم ينقطع عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم إلى أن قبض بل كان الوحي قبل وفاته أكثر ما كان تتابعا. فإذا كان ذلك كذلك ، وكان قوله : (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ) النساء : ١٧٦ آخرها نزولا ، وكان ذلك من الأحكام والفرائض.