قوله تعالى : (وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ) فيه قولان (١) : أحدهما : أخبرناهم ، رواه الضّحّاك عن ابن عباس. والثاني : قضينا عليهم ، رواه العوفيّ عن ابن عباس. وبه قال قتادة ، فعلى الأوّل : تكون (إِلى) على أصلها ، ويكون الكتاب : التّوراة ، وعلى الثاني : تكون (إِلى) بمعنى «على» ، ويكون «الكتاب» : الذّكر الأوّل.
قوله تعالى : (لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ) يعني : أرض مصر (مَرَّتَيْنِ) بالمعاصي ومخالفة التّوراة. وفي من قتلوه من الأنبياء في الفساد الأوّل قولان : أحدهما : زكريّا ، قاله السّديّ عن أشياخه. والثاني : شعيا ، قاله ابن إسحاق. فأمّا المقتول من الأنبياء في الفساد الثاني : فهو يحيى بن زكريّا. قال مقاتل : كان بين الفسادين مائتا سنة وعشر سنين. فأمّا السّبب في قتلهم زكريّا ، فأنهم اتّهموه بمريم ، وقالوا : منه حملت ، فهرب منهم ، فانفتحت له شجرة فدخل فيها وبقي من ردائه هدب ، فجاءهم الشّيطان فدلّهم عليه ، فقطعوا الشجرة بالمنشار وهو فيها. وأما السبب في قتلهم «شعيا» ، فهو أنه قام فيهم برسالة من الله ينهاهم عن المعاصي. وقيل : هو الذي هرب منهم فدخل في الشجرة حتى قطعوه بالمنشار ، وأنّ زكريّا مات حتف أنفه. فأمّا السبب في قتلهم يحيى بن زكريّا ، ففيه قولان : أحدهما : أنّ ملكهم أراد نكاح امرأة لا تحلّ له ، فنهاه عنها يحيى. ثم فيها أربعة أقوال : أحدها : أنها ابنة أخيه ، قاله ابن عباس. والثاني : ابنته ، قاله عبد الله بن الزّبير. والثالث : أنها امرأة أخيه ، وكان ذلك لا يصلح عندهم ، قاله الحسين بن عليّ عليهماالسلام. والرابع : ابنة امرأته ، قاله السّديّ عن أشياخه ، وذكر أنّ السبب في ذلك : أنّ ملك بني إسرائيل هوي بنت امرأته ، فسأل يحيى عن نكاحها ، فنهاه ، فحنقت أمّها على يحيى حين نهاه أن يتزوّج ابنتها ، وعمدت إلى ابنتها فزيّنتها وأرسلتها إلى الملك حين جلس على شرابه ، وأمرتها أن تسقيه ، وأن تعرض له ، فإن أرادها على نفسها ، أبت حتى يؤتى برأس يحيى بن زكريّا في طست ، ففعلت ذلك ، فقال : ويحك سليني غير هذا ، فقالت : ما أريد إلّا هذا ، فأمر ، فأتي برأسه والرأس يتكلّم ويقول : لا تحلّ لك ، لا تحلّ لك. والقول الثاني : أنّ امرأة الملك رأت يحيى عليهالسلام وكان قد أعطي حسنا وجمالا ، فأرادته على نفسه ، فأبى ، فقالت لابنتها : سلي أباك رأس يحيى ، فأعطاها ما سألت ، قاله الرّبيع بن أنس. قال العلماء بالسّير : ما زال دم يحيى يغلي حتى قتل عليه من بني إسرائيل سبعون ألفا ، فسكن ، وقيل : لم يسكن حتى جاء قاتله ، فقال : أنا قتلته ، فقتل ، فسكن.
قوله تعالى : (وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً) أي : لتعظمنّ عن الطّاعة ولتبغنّ.
قوله تعالى : (فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما) أي : عقوبة أولى المرّتين (بَعَثْنا) أي : أرسلنا (عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا) وفيهم خمسة أقوال : أحدها : أنهم جالوت وجنوده ، قاله ابن عباس ، وقتادة. والثاني : «بختنصّر» ، قاله سعيد بن المسيّب ، واختاره الفرّاء ، والزّجّاج. والثالث : العمالقة ، وكانوا كفّارا ، قاله الحسن. والرابع : سنحاريب ، قاله سعيد بن جبير. والخامس : قوم من أهل فارس ، قاله مجاهد. وقال ابن زيد :
__________________
(١) قال الحافظ ابن كثير رحمهالله في «تفسيره» ٣ / ٣٤ : يقول الله تعالى : إنه قضى إلى بني إسرائيل في الكتاب ، أي تقدّم إليهم وأخبرهم في الكتاب الذي أنزله عليهم : أنهم سيفسدون في الأرض مرتين ويعلون علوا كبيرا ، أي يتجبرون ويطغون على الناس. كما قال تعالى : (وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ) ، أي تقدمنا إليه وأخبرناه بذلك وأعلمناه.