وسلام عليه حين ولد. وقال الحسن البصريّ : التقى يحيى وعيسى ، فقال يحيى لعيسى : أنت خير مني ، فقال عيسى ليحيى : بل أنت خير مني ، سلّم الله عليك ، وأنا سلّمت على نفسي. وقال سعيد بن جبير مثله ، إلّا أنه قال : أثنى الله عليك ، وأنا أثنيت على نفسي. وقال سفيان بن عيينة : أوحش ما يكون الإنسان في ثلاثة مواطن ، يوم يولد فيرى نفسه خارجا ممّا كان فيه ، ويوم يموت فيرى قوما لم يكن عاينهم ، ويوم يبعث فيرى نفسه في محشر لم يره ، فخصّ الله تعالى يحيى فيها بالكرامة والسّلامة في المواطن الثلاثة.
(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا (١٦) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا (١٧) قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (١٨) قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا (١٩) قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (٢٠) قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا (٢١))
قوله تعالى : (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ) يعني : القرآن (مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ) قال أبو عبيدة : تنحّت واعتزلت (مَكاناً شَرْقِيًّا) ممّا يلي المشرق ، وهو عند العرب خير من الغربيّ. قوله تعالى : (فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ) يعني أهلها (حِجاباً) أي : سترا وحاجزا ، وفيه ثلاثة أقوال (١) : أحدها : أنها ضربت سترا ، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني : أنّ الشمس أظلّتها ، فلم يرها أحد منهم ، وذلك مما سترها الله به ، وروي هذا المعنى عن ابن عباس أيضا. والثالث : أنها اتّخذت حجابا من الجدران ، قاله السّدّيّ عن أشياخه وفي سبب انفرادها عنهم قولان : أحدهما : أنها انفردت لتطهر من الحيض وتمتشط ، قاله ابن عباس. والثاني : لتفلي رأسها ، قاله عطاء.
قوله تعالى : (فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا) وهو جبريل في قول الجمهور. وقال ابن الأنباري : صاحب روحنا ، وهو جبريل. والرّوح بمعنى : الرّوح والفرح ، ثم تضمّ الراء لتحقيق مذهب الاسم ، وإبطال طريق المصدر ، ويجوز أن يراد بالرّوح ها هنا : الوحي وجبريل صاحب الوحي.
وفي وقت مجيئه إليها ثلاثة أقوال : أحدها : وهي تغتسل. والثاني : بعد فراغها ، ولبسها الثياب. والثالث : بعد دخولها بيتها. وقد قيل : المراد بالرّوح ها هنا : الرّوح الذي خلق منه عيسى ، حكاه الزّجّاج ، والماوردي ، وهو مضمون كلام أبيّ بن كعب فيما سنذكره عند قوله : (فَحَمَلَتْهُ) قال ابن الأنباري : وفيه بعد ، لقوله : (فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا) ، والمعنى : تصوّر لها في صورة البشر التّامّ
__________________
(١) قال ابن كثير رحمهالله في «تفسيره» ٣ / ١٤٦ : وقوله (انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا) أي : اعتزلتهم وتنحت عنهم ، وذهبت إلى شرقي المسجد المقدس. وقوله (فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً) أي : استترت منهم وتوارت ، فأرسل الله إليها جبريل عليهالسلام (فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا) أي : على صورة إنسان تام كامل. وهو ظاهر القرآن فإنه تعالى قد قال في الآية الأخرى : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا) أي : لما تبدى لها الملك في صورة بشر ، وهي في مكان منفرد ، وبينها وبين قومها حجاب ، خافته وظنت أنه يريدها على نفسه فقالت : (إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا) أي : إن كنت تخاف الله ، تذكيرا له بالله ، وهذا هو المشروع في الدفع أن يكون بالأسهل فخوفته أولا بالله عزوجل.