فإن قيل : المآرب جمع ، فكيف قال : «أخرى» ولم يقل : «أخر»؟ فالجواب : أنّ المآرب في معنى جماعة ، فكأنه قال : جماعة من الحاجات أخرى ، قاله الزّجّاج.
قوله تعالى : (قالَ أَلْقِها يا مُوسى) قال المفسّرون : ألقاها ، ظنّا منه أنه قد أمر برفضها ، فسمع حسّا فالتفت فإذا هي كأعظم ثعبان تمرّ بالصخرة العظيمة فتبتلعها ، فهرب منها.
وفي وجه الفائدة في إظهار هذه الآية ليلة المخاطبة قولان : أحدهما : لئلّا يخاف منها إذا ألقاها بين يدي فرعون. والثاني : ليريه أنّ الذي أبعثك إليه دون ما أريتك ، فكما ذلّلت لك الأعظم وهو الحيّة ، أذلّل لك الأدنى.
ثم إنّ الله تعالى أمره بأخذها وهي على حالها حيّة ، فوضع يده عليها فعادت عصا ، فذلك قوله : (سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى) قال الفرّاء : طريقتها ، يقول : تردّها عصا كما كانت ، قال الزّجّاج : «وسيرتها» منصوبة على إسقاط الخافض وإفضاء الفعل إليها ، المعنى : سنعيدها إلى سيرتها.
فإن قيل : إنما كانت العصا واحدة ، وكان إلقاؤها مرّة ، فما وجه اختلاف الأخبار عنها ، فإنه يقول في الأعراف : (فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ) (١) ، وها هنا : «حية» وفي مكان آخر : (كَأَنَّها جَانٌّ) (٢) ليست بالعظيمة ، والثّعبان أعظم الحيّات؟ فالجواب : أنّ صفتها بالجانّ عبارة عن ابتداء حالها ، وبالثّعبان إخبار عن انتهاء حالها ، والحيّة اسم يقع على الصّغير والكبير والذّكر والأنثى. وقال الزّجّاج : خلقها خلق الثّعبان العظيم ، واهتزازها وحركتها وخفّتها كاهتزاز الجانّ وخفته.
قوله تعالى : (وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ) قال الفرّاء : الجناح من أسفل العضد إلى الإبط.
وقال أبو عبيدة : الجناح ناحية الجنب ، وأنشد :
أضمّه للصّدر والجناح
قوله تعالى : (تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) أي : من غير برص (آيَةً أُخْرى) أي : دلالة على صدقك سوى العصا. قال الزّجّاج : ونصب «آية» على معنى : آتيناك آية ، أو نؤتيك.
قوله تعالى : (لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى). إن قيل : لم لم يقل : «الكبر»؟ فعنه ثلاثة أجوبة : أحدها : أنه كقوله : (مَآرِبُ أُخْرى) وقد شرحناه ، هذا قول الفرّاء. والثاني : أنّ فيه إضمارا تقديره : لنريك من آياتنا الآية الكبرى. وقال أبو عبيدة : فيه تقديم وتأخير ، تقديره : لنريك الكبرى من آياتنا. والثالث : أنه إنما كان ذلك لوفاق الآي ، حكى القولين الثّعلبيّ.
(اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (٢٤) قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (٢٥) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (٢٦) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي (٢٧) يَفْقَهُوا قَوْلِي (٢٨))
(وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي (٢٩) هارُونَ أَخِي (٣٠) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (٣١) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (٣٢) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً (٣٣) وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً (٣٤) إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً (٣٥))
قوله تعالى : (إِنَّهُ طَغى) أي : جاوز الحدّ في العصيان.
قوله تعالى : (اشْرَحْ لِي صَدْرِي) قال المفسّرون : ضاق موسى صدرا بما كلّف من مقاومة فرعون
__________________
(١) سورة الأعراف : ١٠٧.
(٢) سورة النمل : ٢٠.