دُونِنا) فيه تقديم وتأخير ، وتقديره : أم لهم آلهة من دوننا تمنعهم؟ وها هنا تمّ الكلام. ثمّ وصف آلهتهم بالضّعف ، فقال : (لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ) والمعنى : من لا يقدر على نصر نفسه عمّا يراد به ، فكيف ينصر غيره؟! قوله تعالى : (وَلا هُمْ) في المشار إليهم قولان : أحدهما : أنهم الكفّار ، وهو قول ابن عباس. والثاني : أنهم الأصنام ، قاله قتادة. وفي معنى (يُصْحَبُونَ) أربعة أقوال : أحدها : يجارون ، رواه العوفيّ عن ابن عباس. قال ابن قتيبة : والمعنى : لا يجيرهم منّا أحد ، لأنّ المجير صاحب لجاره. والثاني : يمنعون ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والثالث : ينصرون ، قاله مجاهد. والرابع : لا يصحبون بخير ، قاله قتادة.
ثم بيّن اغترارهم بالإهمال ، فقال : (بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ) يعني أهل مكّة (حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ) فاغترّوا بذلك ، (أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها) قد شرحناه في الرّعد (١) (أَفَهُمُ الْغالِبُونَ) أي : مع هذه الحال ، وهو نقص الأرض ، والمعنى : ليسوا بغالبين ، ولكنّهم المغلوبون. (قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ) أي : أخوفكم (بِالْوَحْيِ) أي : بالقرآن ، والمعنى : إنني ما جئت به من تلقاء نفسي ، إنما أمرت فبلّغت. (وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ) وقرأ ابن عامر : «ولا تسمع» بالتاء مضمومة «الصّمّ» نصبا. وقرأ ابن يعمر ، والحسن : «ولا يسمع» بضمّ الياء وفتح الميم «الصمّ» بضمّ الميم. شبّه الكفّار بالصمّ الذين لا يسمعون نداء مناديهم ؛ ووجه التشبيه أنّ هؤلاء لم ينتفعوا بما سمعوا ، كالصمّ لا يفيدهم صوت مناديهم. (وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ) أي : أصابتهم (نَفْحَةٌ) قال ابن عباس : طرف. وقال الزّجّاج : المراد أدنى شيء من العذاب ، (لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا) والويل ينادي به كلّ من وقع في هلكة.
(وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ (٤٧))
قوله تعالى : (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ) قال الزّجّاج : المعنى : ونضع الموازين ذوات القسط ، والقسط : العدل ، وهو مصدر يوصف به ، يقال : ميزان قسط ، وميزانان قسط ، وموازين قسط. قال الفرّاء : القسط من صفة الموازين وإن كان موحّدا ، كما تقول : أنتم عدل ، وأنتم رضى. وقوله تعالى : (لِيَوْمِ الْقِيامَةِ) و «في يوم القيامة» سواء. وقد ذكرنا الكلام في الميزان في أوّل الأعراف (٢). فإن قيل : إذا كان الميزان واحدا ، فما المعنى بذكر الموازين؟ فالجواب : أنه لمّا كانت أعمال الخلائق توزن وزنة بعد وزنة ، سمّيت موازين.
قوله تعالى : (فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً) أي : لا ينقص محسن من إحسانه ، ولا يزاد مسيء على إساءته (وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ) أي : وزن حبّة. وقرأ نافع : «مثقال» برفع اللام. قال الزّجّاج : ونصب «مثقال» على معنى : وإن كان العمل مثقال حبّة. وقال أبو عليّ الفارسيّ : وإن كان الظّلامة مثقال حبّة ، لقوله تعالى : (فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً»). قال : ومن رفع ، أسند الفعل إلى المثقال ، كما أسند في قوله تعالى : (وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ) (٣).
__________________
(١) سورة الرعد : ٤١.
(٢) سورة الأعراف : ٨.
(٣) سورة البقرة : ٢٨٠.