والمجادلة والمخاصمة ، وربما تكون من واحد ، كقولك : سافرت ، وشارفت الأمر ، وهي ها هنا من هذا الباب. وقرأ أبو المتوكّل ، وأبو الجوزاء ، وعاصم الجحدريّ ، وابن السّميفع : «مغضبا» بإسكان الغين وفتح الضاد من غير ألف.
واختلفوا في مغاضبته لمن كانت؟ على قولين (١) : أحدهما : أنه غضب على قومه ، قاله ابن عباس ، والضّحّاك. وفي سبب غضبه عليهم ثلاثة أقوال : أحدها : أنّ الله تعالى أوحى إلى نبيّ يقال له : شعيا : أن ائت فلانا الملك ، فقل له يبعث نبيّا أمينا إلى بني إسرائيل ، وكان قد غزا بني إسرائيل ملك ، وسبا منهم الكثير ، فأراد النبيّ والملك أن يبعثا يونس إلى ذلك الملك ليكلّمه حتى يرسلهم ، فقال يونس لشعيا : هل أمرك الله بإخراجي؟ قال : لا ، قال : فهل سمّاني لك؟ قال : لا ، قال : فهاهنا غيري من الأنبياء ، فألحّوا عليه ، فخرج مغاضبا للنبيّ والملك ولقومه ، هذا مرويّ عن ابن عباس ؛ وقد زدناه شرحا في سورة يونس (٢). والثاني : أنه عانى من قومه أمرا صعبا من الأذى والتّكذيب ، فخرج عنهم قبل أن يؤمنوا ضجرا ، وما ظنّ أنّ هذا الفعل يوجب عليه ما جرى من العقوبة ، ذكره ابن الأنباري. وقد روي عن وهب بن منبّه ، قال : لمّا حملت عليه أثقال النبوّة ، ضاق بها ذرعا ولم يصبر ، فقذفها من يده وخرج هاربا. والثالث : أنه لمّا أوعدهم العذاب ، فتابوا ورفع عنهم ، قيل له : ارجع إليهم ، فقال : كيف أرجع فيجدوني كاذبا؟ فانصرف مغاضبا لقومه ، عاتبا على ربّه. وقد ذكرنا هذا في سورة يونس. والثاني : أنه خرج مغاضبا لربّه ، قاله الحسن ، وسعيد بن جبير ، والشّعبيّ ، وعروة ، وقال : المعنى : مغاضبا من أجل ربّه ، وإنما غضب لأجل تمرّدهم وعصيانهم. وقال ابن قتيبة : كان مغيظا عليهم لطول ما عاناه من تكذيبهم ، مشتهيا أن ينزل العذاب لهم فعاقبه الله على كراهيته العفو عن قومه.
قوله تعالى : (فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ) وقرأ يعقوب : «يقدّر عليه» بضمّ الياء وتشديد الدال وفتحها. وقرأ سعيد بن جبير ، وأبو الجوزاء ، وابن أبي ليلى : «يقدر» بياء مرفوعة مع سكون القاف وتخفيف الدال وفتحها. وقرأ أبو عمران الجوني : «يقدر» بياء مفتوحة وسكون القاف وكسر الدال خفيفة. وقرأ الزّهريّ ، وابن يعمر ، وحميد بن قيس : «نقدّر» بنون مرفوعة وفتح القاف وكسر الدال وتشديدها. ثم فيه ثلاثة أقوال : أحدها : أن لن نقضي عليه بالعقوبة ، رواه العوفيّ عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد ، وقتادة ، والضّحّاك. قال الفرّاء : معنى الآية : فظنّ أن لن نقدّر عليه ما قدّرنا من العقوبة ، والعرب تقول : قدر ، بمعنى : قدّر ، قال أبو صخر :
ولا عائدا ذاك الزّمان الذي مضى |
|
تباركت ما تقدر يكن ولك الشّكر (٣) |
أراد : ما تقدّر ، وهذا مذهب الزّجّاج.
__________________
(١) قال الطبري رحمهالله في «تفسيره» ٩ / ٧٦ : وأولى هذه الأقوال في تأويل ذلك عندي ، قول من قال : عني به : فظنّ يونس أن لن نحبسه ونضيّق عليه عقوبة له على مغاضبة ربه وذلك من قولهم قدرت على فلان : إذا ضيقت عليه ، كما قال الله جل ثناؤه (وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللهُ).
ووافقه ابن كثير في «تفسيره» ٣ / ٢٤٢.
(٢) سورة يونس : ٩٨.
(٣) البيت في «شرح أشعار الهذليين» ٢ / ٩٥٨.