قوله تعالى : (فَكُلُوا مِنْها) يعني : الأنعام التي تنحر ؛ وهذا أمر إباحة. وكان أهل الجاهليّة لا يستحلّون أكل ذبائحهم ، فأعلم الله عزوجل أن لذلك جائز (١) ، غير أنّ هذا إنما يكون في الهدي المتطوّع به ، فإمّا دم التمتّع والقران فعندنا أنه يجوز أن يأكل منه ، وقال الشّافعيّ : لا يجوز ، وقد روى عطاء عن ابن عباس أنه قال : من كلّ الهدي يؤكل ، إلّا ما كان من فداء أو جزاء أو نذر. فأما «البائس» فهو ذو البؤس ، وهو شدّة الفقر.
قوله تعالى : (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ) فيه أربعة أقوال : أحدها : حلق الرأس ، وأخذ الشّارب ، ونتف الإبط ، وحلق العانة ، وقصّ الأظفار ، والأخذ من العارضين ، ورمي الجمار ، والوقوف بعرفة ، رواه عطاء عن ابن عباس. والثاني : مناسك الحجّ ، رواه عكرمة عن ابن عباس ، وهو قول ابن عمر. والثالث : حلق الرأس ، قاله مجاهد. والرابع : الشّعر ، والظّفر ، قاله عكرمة.
والقول الأول أصحّ ، لأنّ التّفث : الوسخ ، والقذارة : من طول الشّعر والأظفار والشّعث. وقضاؤه : نقضه ، وإذهابه ، والحاجّ مغبر شعث لم يدّهن ، ولم يستحدّ ، فإذا قضى نسكه ، وخرج من إحرامه بالحلق ، والقلم ، وقصّ الأظفار ، ولبس الثياب ، ونحو ذلك ، فهذا قضاء تفثه. قال الزّجّاج : وأهل اللغة لا يعرفون التّفث إلّا من التفسير ، وكأنه الخروج من الإحرام إلى الإحلال.
قوله تعالى : (وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ) وروى أبو بكر عن عاصم : «وليوفّوا» بتسكين اللام وتشديد الفاء. وقال ابن عباس : هو نحر ما نذروا من البدن. وقال غيره : ما نذروا من أعمال البرّ في أيام الحجّ ، فإنّ الإنسان ربّما نذر أن يتصدّق إن رزقه رؤية الكعبة ، وقد يكون عليه نذور مطلقه ، فالأفضل أن يؤدّيها بمكّة.
قوله تعالى : (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) هذا هو الطّواف الواجب ، لأنه أمر به بعد الذّبح ، والذبح إنما يكون في يوم النّحر ، فدلّ على أنه الطّواف المفروض.
وفي تسمية البيت عتيقا أربعة أقوال : أحدها : لأنّ الله تعال أعتقه من الجبابرة.
(١٠٠٧) روى عبد الله بن الزّبير ، عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «إنما سمّى الله البيت : العتيق ، لأنّ الله
____________________________________
(١٠٠٧) ضعيف. أخرجه الترمذي ٣١٧٠ والحاكم ٢ / ٣٨٩ / ٣٤٦٥ والطبري ٢٥١١٧ من حديث عبد الله بن الزبير.
صححه الحاكم على شرط البخاري ، وقال الترمذي : حسن صحيح.
__________________
(١) قال الإمام الموفق رحمهالله في «المغني» ١٣ / ٣٧٩ : والاستحباب أن يأكل ثلث أضحيته ، ويهدي ثلثها ، ويتصدق بثلثها ، ولو أكل أكثر جاز. والأمر للاستحباب في قوله : (فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ) قال أحمد : نحن نذهب إلى حديث عبد الله : يأكل هو الثلث ، ويطعم من أراد الثلث ، ويتصدق على المساكين بالثلث. قال علقمة : بعث معي عبد الله بهدية فأمرني أن آكل ثلثا ، وأن أرسل إلى أخيه بثلث ، وأن أتصدق بثلث. وعن ابن عمر قال : الضحايا والهدايا ثلث لك ، وثلث لأهلك ، وثلث للمساكين ، وهذا قول إسحاق ، وأحد قولي الشافعي. وقال في آخر : يجعلها نصفين ، يأكل نصفا ويتصدّق بنصف. وقال أصحاب الشافعي : يجوز أكلها كلها. وقال أصحاب الرأي : ما كثر من الصدقة فهو أفضل ، لأن النبي صلىاللهعليهوسلم أهدى مائة بدنة ، وأمر من كل بدنة ببضعة ، فجعلت في قدر ، فأكل هو وعليّ من لحمها ، وحسيا من مرقها. ونحر خمس بدنات أو ست بدنات ، وقال : «من شاء فليقتطع». ولم يأكل منهن شيئا. لأنها ذبيحة يتقرب إلى الله تعالى بها ، فلم يجب الأكل منها. والأمر للاستحباب أو للإباحة.