المتقدّمة ، ومن كذّب نبيّا فقد كذّب سائر الأنبياء ، ولهذا قال : (وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ) ، وقال الزّجّاج : يجوز أن يكون المراد به نوح وحده ، وقد ذكر بلفظ الجنس ، كما يقال : فلان يركب الدّوابّ ، وإن لم يركب إلّا دابّة واحدة ؛ وقد شرحنا هذا في سورة هود عند قوله : (وَعَصَوْا رُسُلَهُ) (١). وقد سبق معنى التّدمير.
قوله تعالى : (وَأَصْحابَ الرَّسِ) في الرّسّ ثلاثة أقوال : أحدها : أنها بئر كانت تسمّى الرّسّ ، قاله ابن عباس في رواية العوفيّ. وقال في رواية عكرمة : هي بئر بأذربيجان. وزعم ابن السّائب أنها بئر دون اليمامة. وقال السّدّيّ : بئر بأنطاكيّة. والثاني : أنّ الرّسّ قرية من قرى اليمامة ، قاله قتادة. والثالث : أنها المعدن ، قاله أبو عبيدة ، وابن قتيبة.
وفي تسميتها بالرّسّ قولان : أحدهما : أنهم رسّوا نبيّهم في البئر ، قاله عكرمة. قال الزّجّاج : رسّوه ، أي : دسّوه فيها. والثاني : أنّ كلّ ركيّة لم تطو فهي رسّ ، قاله ابن قتيبة.
واختلفوا في أصحاب الرّسّ على خمسة أقوال (٢) : أحدها : أنهم قوم كانوا يعبدون شجرة ، فبعث الله إليهم نبيّا من ولد يهوذا بن يعقوب ، فحفروا له بئرا وألقوه فيها ، فهلكوا ، قاله عليّ بن أبي طالب. والثاني : أنهم قوم كان لهم نبيّ يقال له : حنظلة بن صفوان ، فقتلوا نبيّهم فأهلكهم الله ، قاله سعيد بن جبير. والثالث : أنهم كانوا أهل بئر ينزلون عليها ، وكانت لهم مواش ، وكانوا يعبدون الأصنام ، فبعث الله إليهم شعيبا ، فتمادوا في طغيانهم ، فانهارت البئر ، فخسف بهم وبمنازلهم ، قاله وهب بن منبّه. والرابع : أنهم الذين قتلوا حبيبا النّجّار ، قتلوه في بئر لهم ، وهو الذي قال : (يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ) (٣) ، قاله السّدّيّ. والخامس : أنهم قوم قتلوا نبيّهم وأكلوه ، وأول من عمل السّحر نساؤهم ، قاله ابن السّائب.
قوله تعالى : (وَقُرُوناً) المعنى : وأهلكنا قرونا (بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً) أي : بين عاد وأصحاب الرّسّ. وقد سبق بيان القرون (٤) ؛ وفي هذه القصص تهديد لقريش.
قوله تعالى : (وَكُلًّا ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ) أي : أعذرنا إليه بالموعظة وإقامة الحجّة (وَكُلًّا تَبَّرْنا) قال الزّجّاج : التّتبير : التدمير ، وكلّ شيء كسرته وفتّتّه فقد تبّرته ، وكسارته : التّبر ، ومن هذا قيل لمكسور الزّجّاج : التّبر ، وكذلك تبر الذهب.
__________________
(١) هود : ٥٩.
(٢) قال ابن كثير رحمهالله في «تفسيره» ٣ / ٣٩٧ : واختار ابن جرير أن المراد بأصحاب الرس هم أصحاب الأخدود ، الذين ذكروا في سورة البروج ، والله أعلم.
(٣) يس : ٢٠.
(٤) الأنعام : ٦. قال ابن كثير رحمهالله في «تفسيره» ٣ / ٣٩٧ : وقوله (وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً) أي : وأمما بين أصناف من ذكر أهلكناهم كثيرة ، والقرن : هو الأمة من الناس ، كقوله (ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ) وحدّه بعض المفسّرين بمائة وعشرين سنة ، وقيل : بمائة سنة. وقيل : بثمانين سنة ، وقيل : أربعين. وقيل غير ذلك ، والأظهر أن القرن هم الأمة المتعاصرون في الزمن الواحد ، فإذا ذهبوا وخلفهم جيل فهم قرن ثان ، كما ثبت في الصحيحين عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «خير القرون قرني ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم» ... الحديث.