(وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً (٥٣) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً (٥٤) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً (٥٥))
قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ) قال الزّجّاج : أي : خلّى بينهما ؛ تقول : مرجت الدّابّة وأمرجتها : إذا خلّيتها ترعى. ومنه الحديث :
(١٠٥٢) «مرجت عهودهم وأماناتهم» أي : اختلطت.
قال المفسّرون : والمعنى (١) أنه أرسلهما في مجاريهما ، فما يلتقيان ، ولا يختلط الملح بالعذب ، ولا العذب بالملح ، وهو قوله تعالى : (هذا) يعني : أحد البحرين (عَذْبٌ) أي : طيّب ، يقال : عذب الماء يعذب عذوبة ، فهو عذب. قال الزّجّاج : والفرات صفة للعذب ، وهو أشدّ الماء عذوبة ، والأجاج صفة للملح ، وهو : المرّ الشديد المرارة. وقال ابن قتيبة : هو أشدّ الماء ملوحة ، وقيل : هو الذي
____________________________________
(١٠٥٢) صحيح. أخرجه أحمد ٢ / ٢١٢ وأبو داود ٤٣٤٣ من طريق يونس بن أبي إسحاق عن هلال بن خباب به من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص ، وهلال بن خباب حسن الحديث إذا لم يخالف ثقة. وأخرجه أحمد ٢ / ٢٢١ وأبو داود ٤٣٤٢ وابن ماجة ٣٩٥٧ من طريق أبي حازم ، حدثنا عمارة بن عمرو به. وصححه الحاكم ٤ / ٤٣٥ ووافقه الذهبي ، وهو كما قالا. وأخرجه أحمد ٢ / ١٦٢ من طريق إسماعيل عن يونس عن الحسن أن عبد الله بن عمرو قال : وهذا إسناد فيه كلام. ويشهد له حديث أبي هريرة الذي أخرجه الدولابي في «الكنى» ٢ / ٣٥ وصححه ابن حبان ١٨٤٩. وأخرجه البخاري ٤٧٨ من طريق حامد بن عمر عن بشر ، عن عاصم عن واقد عن أبيه عن ابن عمر ـ أو ابن عمرو ـ «شبك النبي صلىاللهعليهوسلم أصابعه». وعلقه البخاري ٤٨٠. قال عبد الله : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم «يا عبد الله بن عمرو ، كيف بك إذا بقيت في حثالة من الناس ، بهذا». وقال الحافظ في الفتح ١ / ٥٦٦ بعد أن ذكر هذا : (وقد ساقه الحميدي في الجمع بين الصحيحين نقلا عن أبي مسعود) ، وزاد هو : «قد مرجت عهودهم وأماناتهم ، واختلفوا فصاروا هكذا ، وشبك بين أصابعه». وأخرجه أبو يعلى ٥٥٩٣ بتمامه : وهو عند أحمد من حديث عبد الله بن عمرو قال : «بينما نحن حول رسول الله صلىاللهعليهوسلم إذ ذكروا الفتنة أو ذكرت عنده» ، قال : «إذا رأيت الناس قد مرجت عهودهم ، وخفّت أماناتهم ، وكانوا هكذا وشبك بين أصابعه قال : فقمت إليه فقلت له : كيف أفعل عند ذلك جعلني الله فداك؟ قال : الزم بيتك ، واملك عليك لسانك ، وخذ ما تعرف ، ودع ما تنكر ، وعليك بأمر خاصة نفسك ، ودع عنك أمر العامة».
__________________
(١) قال ابن كثير رحمهالله في «تفسيره» ٣ / ٤٠٠ : وقوله (وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ ...) أي : خلق الماءين : الحلو والملح. والحلو كالأنهار والعيون والآبار ، وهذا هو البحر الحلو الفرات العذب الزلال ، واختاره ابن جرير وهذا لا شك فيه ، فإنه ليس في الوجود بحر ساكن وهو عذب فرات. والله سبحانه إنما أخبر بالواقع لينبه العباد على نعمه عليهم ليشكروه ، فالبحر العذب هو هذا السارح بين الناس ، فرّقه الله تعالى بين خلقه لاحتياجهم إليه أنهارا وعيونا في كل أرض ، بحسب حاجتهم وكفايتهم لأنفسهم وأراضيهم. وقوله : (وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ) أي : مالح مر زعاق لا يستساغ ، وذلك كالبحار المعروفة الساكنة التي لا تجري ولكن تموج وتضطرب ، وتغتلم في زمن الشتاء وشدة الرياح ، ومنها ما فيه مد وجزر ففي أول كل شهر يحصل منها مد وفيض ، فإذا شرع الشهر في النقصان جزرت بعد الليلة الرابعة عشرة فأجرى الله تعالى ـ وله القدرة التامة ـ العادة بذلك فكل هذه البحار الساكنة مالحة الماء لئلا يحصل بسببها نتن الهواء ، فيفسد الجو بذلك ، ولئلا تجوى الأرض بما يموت فيها من الحيوان ، ولما كان ماؤها ملحا كان هواؤها صحيحا وميتتها طيبة.