فرجع آدم فوجد ابنه قد قتل أخاه ، فذلك حيث يقول الله عزوجل : (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ) إلى قوله : (وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ) وهو ابن آدم ، فما قام بها.
وحكى ابن قتيبة عن بعض المفسّرين أنّ آدم لمّا حضرته الوفاة قال : يا ربّ ، من استخلف من بعدي؟ فقيل له : اعرض خلافتك على جميع الخلق ، فعرضها ، فكلّ أباها غير ولده. وللمفسّرين في المراد بعرض الأمانة على السّموات والأرض قولان : أحدهما : أنّ الله تعالى ركّب العقل في هذه الأعيان ، وأفهمهنّ خطابه ، وأنطقهنّ بالجواب حين عرضها عليهنّ ، ولم يرد بقوله : «أبين» المخالفة ، ولكن أبين للخشية والمخافة ، لأنّ العرض كان تخييرا لا إلزاما ، و «أشفقن» بمعنى خفن منها أن لا يؤدينها فيلحقهنّ العقاب ، هذا قول الأكثرين. والثاني : أنّ المراد بالآية : إنّا عرضنا الأمانة على أهل السّموات وأهل الأرض وأهل الجبال من الملائكة ، قاله الحسن.
وفي المراد بالإنسان أربعة أقوال : أحدها : آدم في قول الجمهور. والثاني : قابيل في قول السّدّيّ. والثالث : الكافر والمنافق ، قاله الحسن. والرابع : جميع الناس ، قاله ثعلب.
قوله تعالى : (إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً) فيه ثلاثة أقوال : أحدها : ظلوما لنفسه ، غرّا بأمر ربّه ، قاله ابن عباس ، والضّحّاك. والثاني : ظلوما لنفسه ، جهولا بعاقبة أمره ، قاله مجاهد. والثالث : ظلوما بمعصية ربّه ، جهولا بعقاب الأمانة ، قاله ابن السّائب.
وذكر الزّجّاج في الآية وجها يخالف أكثر الأقوال ، وذكر أنّه موافق للتفسير فقال : إنّ الله تعالى ائتمن بني آدم على ما افترضه عليهم من طاعته ، وائتمن السّموات والأرض والجبال على طاعته والخضوع له ، فأمّا السموات والأرض فقالتا : (أَتَيْنا طائِعِينَ) (١) وأعلمنا أنّ من الحجارة ما يهبط من خشية الله ، وأنّ الشمس والقمر والنجوم والجبال والملائكة يسجدون لله ، فعرّفنا الله تعالى أنّ السموات والأرض لم تحتمل الأمانة ، لأنها أدّتها ، وأداؤها : طاعة الله وترك معصيته ، وكلّ من خان الأمانة فقد احتملها ، وكذلك كلّ من أثم فقد احتمل الإثم ، وكذلك قال الحسن : «وحملها الإنسان» أي : الكافر والمنافق حملاها ، أي : خانا ولم يطيعا ؛ فأمّا من أطاع ، فلا يقال : كان ظلوما جهولا.
قوله تعالى : (لِيُعَذِّبَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) قال ابن قتيبة : المعنى : عرضنا ذلك ليظهر نفاق المنافق وشرك المشرك فيعذّبهم الله ، ويظهر إيمان المؤمنين فيتوب الله عليهم ، أي : يعود عليهم بالرّحمة والمغفرة إن وقع منهم تقصير في الطاعات.
__________________
(١) فصلت : ١١.