فيها (١) ، هذا قول الجمهور. وحكى ابن السّائب أنّ الله تعالى لمّا أهلك جنّتيهم قالوا للرّسل : قد عرفنا نعمة الله علينا ، فلئن ردّ إلينا ما كنّا عليه لنعبدنّه عبادة شديدة ، فردّ عليهم النّعمة ، وجعل لهم قرى ظاهرة ، فعادوا إلى الفساد وقالوا : باعد بين أسفارنا ؛ فمزّقوا.
قوله تعالى : (قُرىً ظاهِرَةً) أي : متواصلة ينظر بعضها إلى بعض (وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ) فيه قولان : أحدهما : أنهم كانوا يغدون فيقيلون في قرية ، ويروحون فيبيتون في قرية ، قاله الحسن ، وقتادة. والثاني : أنه جعل ما بين القرية والقرية مقدارا واحدا ، قاله ابن قتيبة.
قوله تعالى : (سِيرُوا فِيها) والمعنى : وقلنا لهم : سيروا فيها (لَيالِيَ وَأَيَّاماً) أي : ليلا ونهارا (آمِنِينَ) من مخاوف السفر من جوع أو عطش أو سبع أو تعب. وكانوا يسيرون أربعة أشهر في أمان ، فبطروا النّعمة وملّوها كما ملّ بنو إسرائيل المنّ والسّلوى (فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا) قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو : «بعد» بتشديد العين وكسرها. وقرأ نافع ، وعاصم ، وحمزة : «باعد» بألف وكسر العين. وعن ابن عباس كالقراءتين. قال ابن عباس : إنهم قالوا : لو كانت جنّاتنا أبعد ممّا هي ، كان أجدر أن يشتهى جناها. قال أبو سليمان الدّمشقي : لمّا ذكّرتهم الرّسل نعم الله ، أنكروا أن يكون ما هم فيه نعمة ، وسألوا الله أن يباعد بين أسفارهم. وقرأ يعقوب : «ربّنا» برفع الباء «باعد» بفتح العين والدال ، جعله فعلا ماضيا على طريق الإخبار للناس بما أنزله الله عزوجل بهم. وقرأ عليّ بن أبي طالب ، وأبو عبد الرّحمن السّلمي ، وأبو رجاء ، وابن السّميفع ، وابن أبي عبلة : «بعد» برفع العين وتخفيفها وفتح الدال من غير ألف ، على طريق الشّكاية إلى الله عزوجل. وقرأ عاصم الجحدري ؛ وأبو عمران الجوني : «بوعد» برفع الباء وبواو ساكنة مع كسر العين. قوله تعالى : (وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) فيه قولان : أحدهما : بالكفر وتكذيب الرّسل. والثاني : بقولهم : «بعد بين أسفارنا». (فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ) لمن بعدهم يتحدّثون بما فعل بهم (وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ) أي : فرّقناهم في كلّ وجه من البلاد كلّ التّفريق ، لأنّ الله لمّا غرّق مكانهم وأذهب جنّتيهم تبدّدوا في البلاد ، فصارت العرب تتمثّل في الفرقة بسبإ (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي : فيما فعل بهم (لَآياتٍ) أي : لعبرا (لِكُلِّ صَبَّارٍ) عن معاصي الله (شَكُورٍ) لنعمه.
قوله تعالى : (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ) «عليهم» بمعنى «فيهم» ، وصدقه في ظنّه أنّه ظنّ بهم أنّهم يتّبعونه إذ أغواهم ، فوجدهم كذلك. وإنما قال : (وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ) بالظّنّ ، لا بالعلم ، فمن قرأ : «صدّق» بتشديد الدال ، فالمعنى : حقّق ما ظنّه فيهم بما فعل بهم ؛ ومن قرأ بالتخفيف ، فالمعنى : صدق عليهم في ظنّه بهم. وفي المشار إليهم قولان : أحدهما : أنهم أهل سبأ. والثاني : سائر المطيعين لإبليس. قوله تعالى : (وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ) قد شرحناه في قوله تعالى : (لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) (٢). قال الحسن : والله ما ضربهم بعصا ولا قهرهم على شيء ، إلّا أنه دعاهم إلى الأماني والغرور. قوله تعالى : (إِلَّا لِنَعْلَمَ) أي : ما كان تسليطنا إيّاه إلّا لنعلم المؤمنين من الشّاكّين. وقرأ الزّهري : «إلّا ليعلم» بياء مرفوعة على ما لم يسمّ فاعله. وقرأ ابن يعمر : «ليعلم» بفتح الياء. وفي المراد بعلمه ها هنا ثلاثة أقوال : قد شرحناها في أوّل العنكبوت (٣). (وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ) من الشّكّ والإيمان (حَفِيظٌ) ، وقال ابن قتيبة : والحفيظ بمعنى الحافظ. قال الخطّابيّ : وهو فعيل بمعنى فاعل ، كالقدير ،
__________________
(١) الأنبياء : ٧١.
(٢) الحجر : ٤٢.
(٣) العنكبوت : ٣.