فماتوا ، (وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ) أي : لا يعودون من الأسواق إلى منازلهم ؛ فهذا وصف ما يلقون في النّفخة الأولى. ثم ذكر ما يلقون في النّفخة الثانية قال : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ) يعني القبور ، (إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ) أي : يخرجون بسرعة ، وقد شرحنا هذا المعنى في سورة الأنبياء (١). (قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا) وقرأ عليّ بن أبي طالب ، وأبو رزين ، والضّحّاك ، وعاصم الجحدري : «من بعثنا» بكسر الميم والثاء وسكون العين. قال المفسّرون : إنما قالوا هذا ، لأنّ الله تعالى رفع عنهم العذاب فيما بين النّفختين. قال أبيّ بن كعب : ينامون نومة قبل البعث ، فإذا بعثوا قالوا هذا.
قوله تعالى : (هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ) في قائلي هذا الكلام ثلاثة أقوال : أحدها : أنه قول المؤمنين ، قاله مجاهد ، وقتادة ، وابن أبي ليلى. قال قتادة : أوّل الآية للكافرين ، وآخرها للمؤمنين. والثاني : أنه قول الملائكة لهم ، قاله الحسن. والثالث : أنه قول الكافرين ، يقول بعضهم لبعض : هذا الذي أخبرنا به المرسلون أنّنا نبعث ونجازي ، قاله ابن زيد.
قال الزّجّاج : «من مرقدنا» هو وقف التّمام ، ويجوز أن يكون «هذا» من نعت «مرقدنا» على معنى : من بعثنا من مرقدنا هذا الذي كنّا راقدين فيه؟ ويكون في قوله تعالى : (ما وَعَدَ الرَّحْمنُ) أحد إضمارين ، إمّا «هذا» ، وإمّا «حق» ، فيكون المعنى : حقّ ما وعد الرّحمن.
ثم ذكر النّفخة الثانية ، فقال : (إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً) ، وما بعد هذا ظاهر إلى قوله : (إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ) يعني في الآخرة (فِي شُغُلٍ) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو : «في شغل» بإسكان الغين. وقرأ عاصم ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائيّ : «في شغل» بضمّ الشين والغين. وقرأ أبو هريرة ، وأبو رجاء ، وأيوب السّختيانيّ : «في شغل» بفتح الشين والغين. وقرأ أبو مجلز ، وأبو العالية ، وعكرمة ، والضّحّاك ، والنّخعيّ ، وابن يعمر ، والجحدريّ : «في شغل» بفتح الشين وسكون الغين ، وفيه ثلاثة أقوال (٢) : أحدها : أنّ شغلهم افتضاض العذارى ، رواه شقيق عن ابن مسعود ، ومجاهد عن ابن عباس ، وبه قال سعيد بن المسيّب ، وقتادة ، والضّحّاك. والثاني : ضرب الأوتار ، رواه عكرمة عن ابن عباس ؛ وعن عكرمة كالقولين ، ولا يثبت هذا القول. والثالث : النّعمة ، قاله مجاهد. وقال الحسن : شغلهم : نعيمهم عمّا فيه أهل النّار من العذاب. قوله تعالى : (فاكِهُونَ) وقرأ ابن مسعود ، وأبو عبد الرّحمن السّلمي ، وأبو المتوكّل ، وقتادة ، وأبو الجوزاء ، والنّخعيّ ، وأبو جعفر : «فكهون». وهل بينهما فرق؟ فيه قولان : أحدهما : أنّ بينهما فرقا. فأما «فاكهون» ففيه أربعة أقوال : أحدها : فرحون ، قاله ابن عباس. والثاني : معجبون ، قاله الحسن ، وقتادة. والثالث : ناعمون ، قاله أبو مالك ، ومقاتل. والرابع : ذوو فاكهة ، كما يقال : فلان لابن تامر ، قاله أبو عبيدة ، وابن قتيبة. وأمّا «فكهون» ففيه قولان : أحدهما : أنّ الفكه : الذي يتفكّه ، تقول العرب للرجل إذا كان يتفكّه بالطعام أو بالفاكهة أو بأعراض
__________________
(١) الأنبياء : ٩٦.
(٢) قال ابن كثير رحمهالله في «التفسير» ٣ / ٧٠٥ : يخبر الله تعالى عن أهل الجنة أنهم يوم القيامة إذا ارتحلوا من العرصات فنزلوا في روضات الجنات أنهم في شغل عن غيرهم بما هم فيه من النعيم المقيم والفوز العظيم ، وعن ابن عباس في رواية عنه : (فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ) أي : سماع الأوتار. وقال أبو حاتم : لعله غلط من المستمع ، وإنما هو افتضاض الأبكار.