خلقكم وعملكم. والثاني : أن تكون بمعنى «الذي» ، فيكون المعنى : والله خلقكم وخلق الذي تعملونه بأيديكم من الأصنام ، وفي هذه الآية دليل على أنّ أفعال العباد مخلوقة لله سبحانه. فلمّا لزمتهم الحجّة (قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً) وقد شرحنا قصّته في سورة الأنبياء (١) ، وبيّنّا معنى الجحيم في البقرة (٢) ، والكيد الذي أرادوا به : إحراقه.
ومعنى قوله تعالى : (فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ) أنّ إبراهيم علاهم بالحجّة حيث سلّمه الله من كيدهم وحلّ الهلاك بهم. (وَقالَ) يعني إبراهيم (إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي) في هذا الذّهاب قولان : أحدهما : أنه ذاهب حقيقة ، ثم في وقت قوله هذا قولان : أحدهما : أنه حين أراد هجرة قومه ؛ فالمعنى : إنّي ذاهب إلى حيث أمرني ربّي عزوجل (سَيَهْدِينِ) إلى حيث أمرني ، وهو الشّام ، قاله الأكثرون. والثاني : حين ألقي في النّار ، قاله سليمان بن صرد ؛ فعلى هذا ، في المعنى قولان : أحدهما : ذاهب إلى الله بالموت ، سيهدين إلى الجنّة. والثاني : ذاهب إلى ما قضى به ربّي سيهدين إلى الخلاص من النّار. والقول الثاني : إنّي ذاهب إلى ربّي بقلبي وعملي ونيّتي ، قاله قتادة.
فلمّا قدم الأرض المقدّسة ، سأل ربّه الولد فقال : (رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ) أي : ولدا صالحا من الصّالحين ، فاجتزأ بما ذكر عمّا ترك ، ومثله : (وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ) (٣) ، فاستجاب له ، وهو قوله تعالى : (فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ) وفيه قولان (٤) : أحدهما : أنه إسحاق. والثاني : أنه إسماعيل. قال الزّجّاج. هذه البشارة تدلّ على أنه مبشّر بابن ذكر ، وأنه يبقى حتى ينتهي في السنّ ويوصف بالحلم.
(فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (١٠٢) فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (١٠٣) وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ (١٠٤) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٠٥) إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ (١٠٦) وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (١٠٧) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (١٠٨) سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ (١٠٩) كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١١٠) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١١١) وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (١١٢) وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (١١٣))
قوله تعالى : (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ) فيه ثلاثة أقوال : أحدها : أنّ المراد بالسّعي ها هنا : العمل ، قاله ابن عباس. والثاني : أنه المشي ، والمعنى : مشى مع أبيه ، قاله قتادة. قال ابن قتيبة : بلغ أن ينصرف معه
__________________
«أفعال العباد» عن حذيفة مرفوعا : «إن الله يصنع كل صانع وصنعته».
(١) الأنبياء : ٥٢ ـ ٧٤.
(٢) البقرة : ١١٩.
(٣) يوسف : ٢٠.
(٤) قال ابن كثير رحمهالله في «التفسير» ٤ / ١٩ : يقول تعالى مخبرا عن خليله إبراهيم ـ عليهالسلام ـ أنه بعد ما نصره الله على قومه وأيس من إيمانهم بعد ما شاهدوا من الآيات العظيمة هاجر من بين أظهرهم (وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ. رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ) يعني : أولادا مطيعين عوضا عن قومه وعشيرته الذين فارقهم. قال الله تعالى : (فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ) وهذا الغلام هو إسماعيل عليهالسلام ، فإنه أول ولد بشّر به إبراهيم عليهالسلام وهو أكبر من إسحاق باتّفاق المسلمين وأهل الكتاب ، بل نصّ كتابهم أن إسماعيل ولد لإبراهيم عليهالسلام وعمره ست وثمانون سنة وولد إسحاق وعمر إبراهيم تسع وتسعون سنة. وعندهم أن الله تعالى أمر إبراهيم أن يذبح ابنه وحيده ، وفي نسخة : بكره.