وإنما كان ذلك الذكر لاستحضار أتباعهما من اليهود والنصارى ، وتذكيرهم بما حمل إليهم موسى وعيسى من الهدى والرحمة ، وما كان من أتباعهما من خلاف وشقاق ، ذهب بهم فى الفرقة والعداوة كل مذهب.
وهذا الخلاف بين أتباع موسى وعيسى ـ فيما بين كل فريق منهم ، ثم فيما بين الفريقين ، ثم فيما بينهم وبين المسلمين ـ هذا الخلاف هو مما تقتضية طبيعة الحياة ، وهو بعض مما أشار إليه سبحانه وتعالى فى قوله في الآية السابقة : (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ) .. فهناك حقّ وباطل ، وهناك محقّون ومبطلون ، وإنه لا بد أن يصطدم هؤلاء وهؤلاء ، ويقتتل هؤلاء وهؤلاء ، ولو لا ذلك لتسلط الشر على الخير ، وغلب الباطل على الحق ، وكان في ذلك فساد كل شىء ، وضياع كل شىء.
وفى قوله تعالى : (وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ) إشارة إلى أن هذا الخلاف الذي وقع بين أتباع الأنبياء ، وأوقع القتال بينهم ، إنما هو بتقدير الله وحكمته ، ليكون فى ذلك ابتلاء واختبار ، وليميز الله به الخبيث من الطيب .. فالضمير في (مِنْ بَعْدِهِمْ) يرجع إلى أتباع الأنبياء الذين اختلفوا بعد أنبيائهم ، الذين هم جميعا على دين واحد ، هو دين الله ، وهو الإسلام.
قوله تعالى : (وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ) أي وقع الاختلاف بين أتباع الرسل ، فكان منهم المؤمنون وكان منهم الكافرون ، وكان من ذلك أن اقتتل المؤمنون والكافرون .. (وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا) أي ولو شاء الله ما اقتتلوا مع وجود هذا الخلاف بينهم .. (وَلكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ) أي فوقع القتال بينهم لما أراد الله من حكمة يعلمها ، ولما قضى به من خير وراء هذا الذي يحسبه الناس شرا. ولكن أكثر الناس لا يعلمون.