فى كل أفق ، باحثا عن يوسف .. ثم يعود آخر المطاف ولا شىء معه ، إلّا هذه الزّفرات التي تنطلق من صدره ، فترسم على لسانه هذا النغم الحزين : (يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ)!! وهكذا تهجم لوعات الأسى والحسرة على هذا الشيخ الكبير ، حتى لقد ابيضّت عيناه من الحزن الدفين ، الذي أبى على عينيه أن تبللهما قطرات الدموع ، وأن تطفئ النار المشتعلة فيهما ، حتى أتت على فحمة سوادهما ، وأحالته رمادا! «فهو كظيم» أي يكظم حزنه ، ويحبسه فى صدره .. وذلك هو الحزن أفدح الحزن ، وأشدّه قسوة .. يقول الشاعر «البارودى» :
فزعت إلى الدموع فلم تجبنى |
|
وفقد الدّمع عند الحزن داء |
وما قصّرت فى جزع ولكن |
|
إذا غلب الأسى ذهب البكاء |
(قالُوا تَاللهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ).
ومع هذه الهموم وتلك الأحزان ، التي يعالجها الشيخ الضعيف فى نفسه ، ويمسكها فى كيانه ، فإنه لم يسلم من اللّوم ، الذي يزيد من آلامه ، ويضاعف من أحزانه .. فإذا غفل عن نفسه لحظة وجرت على لسانه كلمة يهتف فيها بيوسف ، تحركت الغيرة فى صدر أبنائه ، وسلقوه بألسنة حداد .. إنه لم ينس يوسف ، ولن ينساه ، وإنه لا يزال يعيش مع ذكراه ، منصرفا إليه بوجوده كلّه ، غير ملتفت إلى أحد سواه!
ومن كلمات العتب واللوم التي يسمعها يعقوب من أبنائه كلما جرى ذكر يوسف على لسانه ـ قولهم هذا ، الذي حكاه القرآن عنهم : (تَاللهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ) ..
والحرض : الشيء الذي استحالت طبيعته وتغيرت معالمه.