إن خذلانهم على يد موسى ، ليس هو الأمر الذي ينظر إليه فرعون الآن ، ويحاسب السحرة عليه .. لأنه رأى بعينه ، هذه القوى القاهرة التي بين يدى موسى ، والتي لا قبل لبشر بمواجهتها .. ولكن الذي يعنيه من أمر السحرة فى هذا الموقف ، هو خروجهم عن أمره ، ومتابعة موسى من غير إذن منه؟ إذ كيف يكون لهم وجود خاص ، وكيف يكون لعقولهم ومشاعرهم سلطان عليهم مع سلطانه؟ إنه يملكهم ويملك ووجودهم الخارجي والداخلى جميعا!!
ـ (آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ؟) إنها مؤامرة مدبرة ، ومكر مبيت بينكم وبينه .. إنه الساحر الأكبر ، الذي علمكم السحر .. وهكذا استجبتم له ولم تخرجوا عن سلطانه عليكم ، شأن التلميذ مع أستاذه ..
(إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ .. فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ)!!
ولا ينتظر ، حتى يعود إلى كرسيّ سلطانه ، ويقدّمهم للمحاكمة .. بل إنه يقيم المحكمة في موقع الجريمة ، وينفذ الحكم على أعين الجماهير التي شهدت الحادثة ، حتى يكون فيها عبرة وعظة .. إنه يضرب والحديد ساخن كما يقولون .. (لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ!).
وإذا وقع الإيمان في القلب موقعا صحيحا ، وجاء إليه عن حجة قاطعة ، وبرهان ساطع ، لم تستطع قوى الأرض كلها مجتمعة أن تنتزع هذا الإيمان ، أو تزحزحه من موضعه ..
وبهذا الإيمان يلقى السحرة تهديد فرعون ووعيده في استخفاف ، وغير مبالاة .. إن كل شىء هيّن ، ماداموا قد حصلوا على الإيمان ، وأنزلوه هذا المنزل المكين من قلوبهم ..
(قالُوا لا ضَيْرَ) .. أي لا ضيم ، ولا خسران علينا ، إذا ذهب من بين أيدينا كل شىء ، ولو كانت حياتنا ، وسلّم لنا إيماننا الذي أشرقت شمسه بين جوانحنا.