تكذيبهم في أصل الدّعوى وتثريبهم في طريق إظهاره فانّ كلّا بإنكار كون صاحبه على دين حقّ ينكر كون نبىّ صاحبه ودينه وشريعته وكتابه على الحقّ وهذا دعوى باطلة في نفسها باطلة من حيث عدم الإتيان بالبرهان عليها ، ولمّا كان عامّة النّاس بل عامّة الحيوان ديدنهم ان ينكروا ما وراء معتادهم وما وراء ما رأوه من آبائهم ، ويحسبوا انّ الحقّ هو ما اعتادوه من غير حجّة عليه سوى قولهم انّا وجدنا آباءنا على أمّة قال تعالى : (كَذلِكَ) اى مثل قولهم (قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) اى لا يكون لهم علم (مِثْلَ قَوْلِهِمْ) فهو تأكيد لقوله تعالى كذلك والمقصود تفضيح آخر لهم بان تشبّهوا بالجهّال يعنى انّ اتّباعهم للشّرائع وقراءتهم للكتب لم يكن يورثهم علما بل كان ذلك أيضا محض التّقليد والاعتياد والّا فما قالوا شيئا يشبه قول الجهّال وكأنّ الامّة المرحومة أخذوا هذه الشّيمة من اليهود والنّصارى فأخذ كلّ في انكار صاحبه من غير سلطان كبر مقتا عند الله ان يقولوا ما لا يعلمون لكن بما كان كلّ حزب بما لديهم فرحين لا يتركون انكار ما لا يعلمون (فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ) بين الجماعتين أو بين المختلفين من اليهود والنّصارى والّذين يحذو حذوهم في هذا القول (يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) من غير حجّة وعلم. وذكر في نزول الآية انّها نزلت في طائفتين من اليهود والنّصارى جاؤا الى رسول الله (ص) وعرضوا عليه هذين القولين وقالوا يا محمّد اقض بيننا (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) عطف على جملة (كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) فانّها تشعر بأنّهم يمنعون عباد الله عن الإسلام وعن مساجدهم الصّوريّة وعن مساجدهم الحقيقيّة الّذين هم الرّسول وخلفاؤه ، (وَمَنْ أَظْلَمُ) استفهام إنكاري في معنى النّفى فكأنّه قال كذلك يمنع الّذين لا يعلمون مساجد الله ولا أظلم ممّن منع مساجد الله ، ومنع ضدّ أعطى وهو يتعدّى الى المفعولين بنفسه ، والى الاوّل بمن والى الثّانى بنفسه ، والى الأوّل بنفسه والى الثّانى بعن أو بمن ، ومساجد الله هاهنا مفعول اوّل وان يذكر مفعول ثان أو مساجد الله مفعول ثان وان يذكر بدل منه بدل الاشتمال والمفعول الاوّل محذوف والتّقدير : من أظلم ممّن منع النّاس عن مساجد الله عن الذّكر فيها.
تحقيق الظلم
والظّلم وضع الشيء في غير ما وضع له ومنعه عمّا وضع له ولذا فسّر بإعطاء الحقّ لغير المستحقّ ومنع الحقّ من المستحقّ وهو ينشأ من ظلمة النّفس وعدم استنارتها بنور العقل ، ولذا اشتقّ اسمه منها ، لانّ من أظلم نفسه ولم يستضئ بضياء العقل ولم يكن تابعا لولىّ الأمر لا يتميّز الحقّ والمستحقّ عنده ، ومن لم يميّز الحقّ والمستحقّ لا يمكنه إعطاء الحقّ للمستحقّ ويعطى الحقّ لغير المستحقّ ويمنع المستحقّ عن الحقّ في عالمه الصّغير فانّ لكلّ من قواه ومداركه وأعضائه حقّا ولكلّ واحد منها مستحقّا هو حقّ له وينبغي إعطاءه لذلك المستحقّ وهو العقل المنقاد لولىّ الأمر ، وإذا صار ظالما في عالمه الصّغير صار ظالما في العالم الكبير بالنّسبة الى من تحت يده والى غيرهم ولا أقلّ من الظّلم الّذى هو منع نفسه عن المستحقّ الّذى هو ولّى أمره ويتدرّج في هذا الظلّم حتّى ينتهى امره الى منع المستحقّ الّذى هو غاية الغايات الّذى هو ولىّ الأمر نبيّا كان أم وصيّا عن الحقّ الّذى هو غاية الحقوق ونهاية العبادات وهو ذكر اسم الله تعالى عنده وفيه وله كما قال تعالى : (ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ) وامّا التّابع لولىّ الأمر فانّه إذا كان آخذا من ولىّ أمره عاملا بأمره تاركا لما نهى عنه كان عادلا