ينسخ بشريعة اخرى على انّ أهل الكتاب قرءوا في كتبهم وسمعوا من أحبارهم بأخبار أنبيائهم أنّ محمّدا (ص) يصلّى الى القبلتين (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) وعد ووعيد للمقرّ والمنكر ، وقرئ يعملون بالغيبة (وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ) معجزة مقترحة لهم أو غير مقترحة (ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ) لأنّهم أصحاب النّفس والنّفس كالشّيطان من فطرتها عدم الانقياد ؛ وطلب الآية ليس الّا للفرار من الانقياد ولو أتيت بالآية المقترحة لما انقادت واعتذرت بعذر آخر واقترحت آية أخرى وهذا قطع لأطماع المؤمنين عن اتّباع أهل الكتاب لهم (وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ) قطع لأطماعهم من متابعته (ص) قبلتهم فانّهم قالوا : لو كنت ثابتا على قبلتنا لكنّا نرجو ان تكون صاحبنا الّذى ننتظره (وَما بَعْضُهُمْ) كالنّصارى (بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ) كاليهود فانّ اليهود كما قيل تستقبل الصّخرة والنّصارى مطلع الشّمس (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ) خطاب له (ص) والمقصود أمّته (ص) كسابقتها فانّ المؤمنين لرغبتهم في إسلام أهل الكتاب كانوا يودّون لو كان رسول الله (ص) بقي على قبلتهم حتّى يسلموا (مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ) قطع لاطماع المؤمنين عن بقائه (ص) على قبلتهم واتّباعه (ص) لأهوائهم (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) جواب لسؤال مقدّر ولذا لم يأت بأداة الوصل كأنّه قيل : الا يعرف أحد منهم محمّدا (ص) وقبلته؟ ـ فقال الّذين آتينا هم الكتاب يعنى أحبارهم ولذا نسب الفعل الى نفسه تشريفا لهم ونسب الكتمان الى فريق منهم (يَعْرِفُونَهُ) اى محمّدا (ص) أو تحويله الى قبلة اخرى في صلوته (كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ) في منازلهم بحيث لا يمكن الشكّ والريبة لهم (وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ) وهم الّذين عاندوا الحقّ عن علم لمحض اللّجاج (لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) الحقّ أو انّ محمّدا (ص) نبىّ ، أو المراد أنّهم علماء على ان يكون المفعول منسيّا (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) مبتدأ وخبر جواب لسؤال مقدّر كأنّه (ص) قال فما أفعل؟ ـ فقال تعالى : الحقّ من ربّك اى اثبت عليه ولا تغتمّ بكتمانه وقرئ الحقّ بالنّصب ؛ على ان يكون مفعول يعلمون (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها) الضّمير لله أو لكلّ والتولية بمعنى الإقبال والأدبار وبمعنى التّوجيه وقرئ لكلّ وجهة بالاضافة وقرئ [هو مولّيها] بالألف اسم مفعول ؛ والآية بتنزيلها ردّ على من أنكر التّوجّه الى الكعبة في الصّلوة من أهل الكتاب ومن ضعفاء المسلمين والمعنى لكلّ أمّة قبلة مخصوصة بها تلك الامّة ، والله مولّيها إليها ، (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ) ولا تشتغلوا بالقول في أمر القبلة ، وبتأويلها ردّ على من أنكر الولاية وتوجّه النّفوس الى القلب وصاحب القلب كالعامّة ، وترغيب في التّوجّه من الجهات النّفسانيّة الفانيّة الى الجهة القلبيّة الاخرويّة الولويّة الباقية والمعنى لكلّ صنف أو فرد وجهة يتوجّه إليها ولا ينفكّ أحد منكم عن التّوجّه الى جهة من الجهات فتوجّهوا الى ما ينفعكم ويبقى معكم وهو جهة القلب الّتى لا يمكن التّوجّه إليها الّا بقبول الولاية فاستبقوا الولاية الّتى هي أصل جميع الخيرات ولذا فسّر الخيرات بالولاية في الخبر ، وسيأتى بيان للخير وأنّ أصل الخير والحسن والحقّ والصّلاح هي الولاية ، وكلّ ما كان مرتبطا بالولاية كان خيرا وحسنا كائنا ما كان ، وكلّما لم يرتبط بالولاية لم يكن خيرا كائنا ما كان. (أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعاً) استيناف في مقام التّعليل يعنى أينما تكونوا من جهات النّفس ومقامات الإنسان والشّيطان والسّباع والبهائم يأت بكم الله ؛ وهذا يقتضي استباق الخيرات أو الأمر بالاستباق